عربة متنقلة لبيع منتجات مصنع الألبان الوطني
إعداد - منصور العسّاف
يعود تاريخ انتشار معامل ومصانع الألبان بالمملكة إلى فترة اهتمام الملك المؤسس -رحمه الله- بمشروعات التنمية الزراعية، حيث بدأت الأعمال الضخمة في مشروع "الخرج" و"السهباء" المسمى ب"مشروع الخرج الزراعي" في عام 1358ه، الذي صدر في الآونة الأخيرة قرار من مجلس الوزراء بإنهاء ارتباطه بهيئة الري والصرف في الأحساء، وضمه إلى قطاع الثروة الحيوانية بوزارة الزراعة، بعد إيقاف تصنيع وتسويق الحليب.
وكانت المشروعات الزراعية قد ازدهرت في الستينات والسبعينات الهجرية، حيث تم استيراد مكائن ضخ وسحب المياه من آبار وعيون محافظة "الخرج"، واعتماد "مشروع الخرج" كأحد أكبر مشروعات التنمية الزراعية بالبلد، حيث تنتج فيه الفاكهة، والخضار، والأسمدة، والأعلاف، والألبان بمشتقاتها.
يكثر الطلب على اللبن الغني ب»الكوليسترول»
لبن "القاضي"
ويستميل الزائر لهذه المحافظة الوادعة النفس إلى الهوى ومراتع الصبا، في زيارته إلى حيث "مشروع الخرج الزراعي" بين مروج مدينة "السيح" الناضرة وجداولها الرقراقة العاطرة، بل إنّ العابر إلى هذا المشروع الحديث يمر أثناء طريقه بمحال ونقاط بيع عبارة عن أكشاك صغيرة، من جذوع وعسيب النخل في أكناف إحدى محطات الوقود المتناثرة أو عند دوار مروري عرف بين أهالي المنطقة باسم "ملف عواد"، وربما استقل صاحبها زاوية في الفضاء الخالي، إلاّ من شماسة بالية تداولتها الأيام، وتداعت عليها عاديات الزمان، يتظللها شاب غضي يقف أمام مبرد صغير، مكتنز بدلاء اللبن "البكر"، ولم يكن ذلك إلاّ لبن "القاضي" الذي يبيعه هذا الشباب على المارة، بعد تعبئته بأكياس بلاستيكية بحسب طلب الزبون، وحينها ستجد زرافات من المارة، وطوابير من السيارات العابرة؛ تتهادى نحو هذا الشباب الذي يضيف شيئاً من الملح إلى محاضن اللبن، وكانت حينها تلك عمليات البسترة والتعقيم التي سمحت بها ظروف وإمكانات أبناء ذلك الزمان، الذين عرفوا نوعاً آخر من اللبن الذي يباع بالطريقة نفسها في المنطقة الشرقية.
تجهيز منتجات الألبان في مصانع متواضعة
سلوم العرب
وتقبل المجتمع رؤية عملية بيع الألبان التي لم يكن العرب بيعونها؛ لكون تقديمها للضيف والمارة كان واجباً من واجبات الضيافة، وسلماً من "سلوم العرب"، حتى إنّ الشاعرة "مرسا العطاوية" حجت ذات مرة إلى البيت العتق، وسمعت بائع اللبن بمكة ينادي بأعلى صوته: "لبن.. لبن"، فاستغربت أن يباع اللبن بأرض العرب فقالت:
ياللي تنادي باللبن ما لنا فيه
عان اللبن في سد عبلة ملاوي
خشم الينوفي والحور بارك فيه
مر بخلفات عليها العطاوي
ومبهل وأبا الحيران كان أنت غاويه
مرتاع بدو ما تلاهم شواوي
ووادي الجرير إلى حدر من علاويه
وخشم الذنيبه والجذيب متساوي
ترى الدعيكه والحفاير حراويه
مرباع خلفات ترب المطاوي
تلقى مصلحة الدبش كلهم فيه
بالرجع اللي يذبحن الهواوي
مجموعة من عبوات منتجات الألبان القديمة
اللبن الوطني
وباستثناء ألبان "مشروع الخرج" كان اللبن بالمنطقة الشرقية قد تقدّم في تاريخ تصنيعه جميع ألبان الشركات المنتجة بالمملكة، حين بدأ إنتاجه عام 1386ه، وعرفه الناس حينها باسم اللبن الوطني، نسبةً إلى اسم الشركة المصنعة "مصنع الألبان الوطني"، وكانت خطوط إنتاج هذا المصنع لا تقف على اللبن والحليب، بل تتجاوزها إلى الزبادي والبوظة الشهيرة، التي تباع آنذاك في أزقة وميادين "الخبر" و"الدمام" و"القطيف" و"سيهات"، ولها مع أبناء الثمانينات الهجرية أيام وحكايات وقصص وذكريات لا ينساها جيل ذلك الزمن، الذي كان طلابه يتسابقون حين خروجهم من المدارس إلى عربة صغيرة، عبارة عن مبرد متنقل يقوده الطفل "جاسم"، حيث تجمع العمال الذين يتسابقون إلى حجز أكواب اللبن الطازج، في حين يدفع الطلاب مصروفهم المدرسي على "بوظة الحليب" و"الكريمة المبردة".
«خض» اللبن ب «الشكوه»
طفرة الإنتاج
بقي إنتاج "مشروع الخرج الزراعي" إلى وقت قريب مشاهداً أمام أعين عملاء شركات الألبان، لا سيما وأنّه استمر في إنتاج اللبن الخاص الذي يعرف بشعاره الوطني ذي السيفين والنخلة، وبعده ظهرت عدة شركات ومصانع صغيرة ومحدودة كانت تقتصر في توزيعها على مناطق جغرافية قريبة من موقع إنتاجها، لحين ظهور "مصنع الألبان الوطني بالخبر" عام 1386ه، وفي النصف الثاني من التسعينات الهجرية برزت صناعة الألبان أمام أعين المستثمرين والتجار ورجال الأعمال في جوٍ تنافسي محموم، حيث ظهر "لبن الخبر" والذي عرف بأنّه امتداد لنشاط مصنع الألبان الوطني، كما ظهر "لبن الخبراء" الذي ما زال يحجز محله في رفوف مبردات الأسواق الكبرى، في حين لم يستمر "لبن الخبر" طويلاً وانقطع انتشاره في التسعينات الهجرية، بعد أن كان يحجز مكانه وسط خوان المائدة السعودية مع كل وجبة غداء.
ألبان المشيقح
بدت "ألبان الخبر" ذات العلب الكرتونية الحمراء محل قبول وترحيب من قبل الناس، لا سيما وقد انتشرت بينهم بصورة كبيرة، إلاّ أنّها اختفت فجأة وكأنّها لم تظهر، وحينها اكتسحت "ألبان المشيقح" سوق الألبان بلا نظير ولا منازع، وبدت كمشروع زراعي مهول يغطي ويلبي حاجة السوق، لا سيما وأنّ منظر زبائنه كان ماثلاً أمام أعين أبناء ذلك الجيل الذين كانوا يتزاحمون عند مبرداته المتنقلة، خصوصاً في وقت خروج العاملين والموظفين، وحينها كان المنظر متكرراً طيلة أيام الدوام الرسمي، حتى إنّ عامل المبيعات كان مضطراً لأن يقفز فوق المبرد ويرمي بأكياس اللبن إلى الزبائن المتجمهرين حول ثلاجة التوزيع المتنقلة.
ازدهرت "ألبان المشيقح" خلال الثلاث سنوات الأخيرة من حقبة السبعينات الهجرية، وكانت معبأة بأكياس بلاستيكية مختومة تباع بما يقارب الثلاثة ريالات، واشتهر منها حجم واحد يقارب اللتر يوزع من مقر مصانعه في منطقة القصيم، وكانت الشركة عبارة عن مشروع زراعي كبير ومتنوع، انحسر نشاط ألبانها مطلع القرن الهجري الجديد، وبدأت "ألبان المشيقح" تنحسر من المائدة السعودية جلياً مع بداية عام 1400ه.
إعلان ترويجي لمنتج «لبن المطرود» قديماً
قنينة بلاستيك
وفي عام (1398– 1399ه) ظهر مشروع زراعي آخر لا يقل حجماً عن سابقه، بيد أنّه هذه المرة أعاد النشاط إلى طريق محافظة "الخرج"، وتحديداً إلى طريق الخرج القديم، حيث بدت "ألبان سنابل" كمنتج حديث اكتسح سوق الألبان، وربما سحب البساط عما سواه من منتجات اللبن الطازج، خصوصاً حين ظهرت عبوات سنابل بشكل جديد عبارة عن "قنينة لبن" من البلاستيك المقوى، مغلفة من رأسها بغطاء من القصدير ذي اللون الأحمر، الذي يختلف باختلاف نوع المنتج بين اللبن والحليب، كما كان يأتي بعبوات متعددة الأحجام والأشكال، وحينها بدأ المشروع الضخم يغطي بمبيعاته عدداً كبيراً من مدن وقرى المملكة، وظل مع بداية القرن الهجري الجديد سيّد سوق الألبان بلا منازع.
«لبن الهلال» فكرة تسويقية أعادت نشاط «سنابل»
شركات عملاقة
استمرت "سنابل" إلى عام 1401ه بمنافسة ألبان أخرى أقل انتشاراً وتوسعاً منه ***ن "الربيع" ولبن "الري" وألبان "الشرق الجديد" و"زهور الربيع"، والأخيران عرفا بمنتج الزبادي أكثر من الألبان، حيث ظهرت شركتا "الصافي" و"المراعي" كشركتين عملاقتين تنافستا على سوق الألبان، وتقاربتا في تاريخ نشأتيهما وإنتاجهما من اللبن الخالص، ومشتقات الحليب الطازج، بل وتقاربتا في مزارعهما الضخمة في محافظة "الخرج" لتقضيا على حضارة ألبان "سنابل" و"المشيقح"، وتتسيد الشركتان العملاقتان سوق الألبان في المملكة، مع شركة عملاقة ثالثة، تنوعت في منتجاتها واختارت منطقة "حرض" لمصانعها الضخمة، حيث باتت شركة "نادك" ثالث عملاق قلل فرص المنافسة للشركات الطامحة، ما عدا ألبان بعض المزارع الصغيرة، والمصانع المحدودة، والمعامل الزراعية المرفقة في كليات الزراعة، أو محاضن الأبقار في قطاعات وزارة الزراعة والمياه، أو المزارع الخاصة والشركات المحدودة، وبقيت الشركات الثلاث العملاقة تتنافس فيما بينها، واستمرت الشركات الصغيرة والمحدودة، في حين ظل لبن "مشروع الخرج الزراعي" منافساً لا بأس به في سوق الألبان طيلة الثمانينات.
عبوات قديمة لشركات الألبان الثلاثة الكبرى
لبن الهلال
أعادت ألبان "سنابل" نشاطها، وبدأت بفكرة تسويقية حديثة على سوق المملكة، وذلك حين عقدت شراكة مع نادي الهلال الرياضي، وأطلقت عبوات كرتونية جديدة منتصف عام 1406ه "لبن الهلال"، وجد هذا المنتج فرصة في تزامن إنتاجه مع إقرار وزارة الإعلام بث الإعلان التجاري في قناتي التلفزيون السعودي، حيث ظهر إعلان "لبن الهلال" وسط المدرجات الغربية لملعب رعاية الشباب بالملز -ملعب الأمير فيصل بن فهد حالياً-، وربما سبقته بطولة الأندية الخليجية لأبطال الدوري، التي حصل ممثل المملكة نادي الهلال على كأسها مطلع عام 1406ه، فيما كان لشركة "المراعي" سبق حصولها على أول إعلان تلفزيوني مع إعلانين آخرين، وكانت العبارات التسويقية التي روج من خلالها "الصافي" لمنتجاته تتردد بين مسوقي الشركةمن البقرة إلى المائدة) وعلى ألسنة الأطفالحتى تصبح متعافي اشرب حليب الصافي).
ورغم أنّ فكرة "لبن الهلال" كانت تمثل أسلوباً جديداً ومبتكراً من قبل "سنابل الزراعية" لمواجهة سيطرة الشركات الثلاث على سوق الألبان، إلاّ أنّ انحسار سنابل وقلة الطلب على منتجها الجديد "لبن الهلال"، عجّل من وأد الفكرة وعودة منتجات "سنابل" إلى التوزيع المحدود، ولعلها فرصة كانت متاحة لظهور مصانع وشركات مثل ألبان "ندى" و"الهنا" و"العزيزية"، التي استمرت إلى اليوم بحجم جيد من المبيعات.
لبن العزيزية بقي مختلف الطعم بين جيل التسعينات ميلادياً
روب وزبادي
كان ثمة عدد من شركات الألبان التي عرفت بمنتجاتها من الزبادي والحليب و"الأيسكريم" ولم يظهر لها اسم لامع في عالم الألبان، رغم انتشار توزيعها من منتجاتها المتعددة، التي ما يزال أبناء السبعينات والثمانينات يتذكرونها جيداً، وكيف أنّ عبوات زبادي "زهور الربيع" و"ألبان بدر" و"دانيا" و"البندرية" و"القصيم" و"الجزيرة"، وغيرها كثير لا يحصى من منتجات مصانع الألبان، التي ازدهرت أثناء وبعد مرحلة الطفرة الأولى نهاية التسعينات الهجرية وبداية الثمانينات الميلادية، حيث انتشرت المصانع وقروض البنك الزراعي والبنك الصناعي، وبدأ العمل بالمدن الصناعية الكبرى جنوب العاصمة "الرياض"، ناهيك عن ألبان المناطق الأخرى كالمنطقة الشرقية التي انفردت بها منتجات شركة "المطرود" في مصنع الألبان الوطني، التي لها تاريخ طويل من ذكريات جيل ما قبل ثلاثين والأربعين عاماً، والتي عاودت انتشارها في الثمانينات الميلادية، إضافةً إلى "ألبان السيرة "في تبوك و"ألبان نجران" و"ألبان الطائف" و"ألبان الخرج" أو "الجدعان" وغيرها في كل منطقة لبن تكتفي الشركة بمنطقته.
عودة للمنافسة
وتعود بعض شركات الألبان التي عادت للمنافسة من فترة وأخرى، مثل "المزرعة" التي توسعت بمبيعاتها منتصف التسعينات الميلادية، وبلغت حد الانتشار الواسع أواخر العقد نفسه، كما ظهرت "نجدية" وما زالت في محل معتبر من المنافسة والانتشار، ناهيك عن بقاء "لبن الخبراء" العتيد الذي قارب عمره الأربعين عاماً وما يزال يحظى بتواجده على مائدة الغداء، ويحجز مكاناً معتبرا في زوايا ثلاجات الأسواق الكبيرة، و"لبن العتش" الذي انتشر مؤخراً من موقع إنتاجه في ضاحية "حفر العتش" شمال مدينة "الرياض"، كما كان ظهور "لبن زمان" في منتصف التسعينات الميلادية مفاجئاً وهو يغزو الأسواق بسرعة البرق، وينتشر بين يدي الزبائن على أنه لبنٌ "من المزرعة إلى الفم"، لا سيما أنّ له عبوات مختلفة ومتباينة، وثلاجات على طريقه ألبان زمان، حين كان اللبن يغرف من الدلاء وسط الثلاجات ويصب في أكياس بلاستيكية، ورغم نجاح الفكرة وانتشارها، إلاّ أنّ "لبن زمان" سرعان ما عاد للأفول بعد سنة أو سنتين من بداية انتشاره، ليظهر "لبن القرية" بفكرة مقاربة ربما ما زالت قائمة وتحكي قصة تسويق اللبن الطازج، لاسيما وهو يباع بأكواب صغيرة محكمة الإغلاق.
حرب الألبان
وفي عام (1417-1418ه) برز ما يُسمى ب"حرب الألبان"، حيث أخذت أسعار الألبان تتدرج بالنزول، حتى باعت بعض المنتجات عبواتها من اللتر الواحد بريالين؛ مما سبب أزمة لدى المصانع الكبيرة التي تضررت كثيراً من هذه النقلة المفاجئة بالأسعار، فعقدت حينها المشاورات بين شركات الألبان لاسيما الكبرى منها، وعقدت الندوات والاجتماعات مع المسؤولين بوزارة الزراعة والمياه، وطارت الصحف ووسائل الإعلام بالحديث المطول عن ظاهرة خفض الأسعار، ومراقبة الجودة، والحرص على التنوع، وإذكاء روح التنافس لغرض تعديل الأسعار، وتحسين الخدمة، واستقر سعر اللتر الواحد حينها بين (3-4) ريالات، وشمل هذا الشركات الثلاثة "الصافي" و"المراعي" و"نادك".
منتجات الألبان اليوم تسوق بأفضل الامكانات والخدمات للعملاء
ألبان الرشاقة
تبدو شركات الألبان اليوم أمام جملة من تحديات التسويق والمنافسة، لاسيما بعد
أن تجاوزت الشركات المحلية العملاقة حدود الوطن، وأصبحت مبيعاتها تقفز
إلى مؤشرات نافست من خلالها الألبان المحلية في بعض الدول المجاورة، وفيما
لا يزال التنافس المحلي بين الشركات الكبرى والشركات الأقل نشاطاً
وانتشاراً قائماً على محك الأسعار، ظل التنافس في تقديم الخدمة وتوفير المنتج
وتنوع خطوطه، سمة بارزة بين شركات الألبان، لاسيما وأنّ ظروف هذا الزمان وعلو ثقافة
جيل اليوم استدعت هذه الشركات إلى تشكيل وتنويع عروضها من الحليب والألبان قليلة
ومنزوعة الدسم، في حين كانت ألبان جيل الثمانينات الهجرية تسوق لمنتجها بعبارة تدلل
على احتواء ألبانها على أكبر نسبة من الزبدة، بل إنّ التعريف بالمنتج حينها لم يكن ليخلو
من عبارة (لبن بالزبدة)، وربما لولا هذه العبارة لما وجد هذا المنتج
أو ذاك طريقة إلى المائدة السعودية قبل أكثر من خمسين عاماً.