إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَنْ يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومَنْ تَبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فإن الكثير من المسلمين قد لا يعرفون الفرق بين
الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، فأقول وبالله تعالى التوفيق:
الإرادة في القرآن الكريم نوعان: إرادة كونية قدرية، وإرادة دينية شرعية؛ (مجموع فتاوى ابن تيمية، جـ 11، صـ: 266)، وسوف نتحدث عن كل منهما.
أولًا:
الإرادة الكونية القدرية:
الإرادة
الكونية القدرية تعني: مشيئة الله تعالى الشاملة لجميع الحوادث؛ فهي تتعلق بكل ما يشاء الله تعالى فعله وإحداثه، سواء أحبَّه أو لم يرضه من الكفر والمعاصي؛ (مجموع فتاوى ابن تيمية، جـ 11 صـ: 266).
1- قال سبحانه: ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 125].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى: ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ﴾؛ أي يُيسره له، وينشطه ويُسهِّله؛ لذلك فهذه علامات على الخير؛ كقوله تعالى: ﴿ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ﴾ [الزمر: 22]، وقال تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ﴾ [الحجرات: 7]، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ﴾: يقول تعالى: يُوسِّع قلبه للتوحيد والإيمان به؛ (تفسير ابن كثير، جـ3، صـ 300).
2- وقال تعالى: ﴿ قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [هود: 32 -34].
3- وقال جلَّ شأنُه: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ [البقرة: 253].
4- قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة: 41].
♦
الإرادة الكونية: هي
الإرادة المذكورة في قول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
ثانيًا:
الإرادة الدينية الشرعية:
الإرادة الدينية
الشرعية تعني: إرادة الله تعالى المتضمنة للمحبة والرضا، فهي تتعلق بكل ما يأمر الله تعالى به عباده ممَّا يحبُّه ويرضاه؛ (مجموع فتاوى ابن تيمية؛ جـ 11، صـ: 266).
1- قال تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185].
2- وقال سبحانه: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [النساء: 26].
3- وقال جل شأنه: ﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 27، 28].
4- وقال سبحانه: ﴿ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [المائدة: 6].
5- وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ [الأحزاب: 33].
والإرادة
الشرعية هي المذكورة في مثل قول الناس لمن يفعل القبائح: هذا يفعل ما لا يريده الله؛ أي: لا يحبُّه، ولا يرضاه، ولا يأمُر به.
الفرق بين
الإرادة الكونية والإرادة الشرعية:
الفرق بين الإرادتين أن
الإرادة الكونية لا بد فيها من وقوع ما أراده الله تعالى، ولا يلزم أن يكون هذا الأمر الواقع محبوبًا عند الله تعالى، وأما
الإرادة الشرعية، فلا بد أن يكون المراد فيها محبوبًا لله، ولكن لا يلزم وقوعه، فقد يقع المراد، وقد لا يقع.
والإرادة الكونية تجتمع مع
الإرادة الشرعية في مثل إيمان المؤمن وطاعة المطيع، وتنفرد
الإرادة الكونية في مثل كفر الكافر، ومعصية العاصي، وتنفرد
الإرادة الشرعية في مثل إيمان الكافر وطاعة العاصي؛ (شرح العقيدة الطحاوية؛ لابن أبي العز الحنفي، جـ 1، صـ 68:66).
ختامًا: أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعله ذخرًا لي عنده يوم القيامة: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]، كما أسأله سبحانه أن ينفع به طلاب العلم الكرام، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.