إن الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،
وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى أتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعد:
فقد قال - تعالى -:
{لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 148]،
فكل ما كان سيئًا من القول،
فالجهر به لا يحبُّه الله - عزَّ وجلَّ -
لأن هذا فيه نشرٌ للرذيلة بين العباد،
فإذا أذنب شخص ذنبًا أو ارتكب كبيرةً؛
كأن قتَل نفسًا بغير حق، أو زنا أو سرق،
فباب التوبة مفتوح للعبد؛
لقول النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم -:
((إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار،
ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل،
حتى تطلع الشمس من مغربها))[1].
تعريف الستر:
الستر لغة: تغطية الشيء،
وستَر الشيء يستُرُه سترًا؛
أي: أخفاه، وتستَّر؛
أي: تغطَّى،
وفي الحديث:
((إن الله حييٌّ سِتِّير يحبُّ الحياء والستر))[2]؛
أي: من شأنه وإرادته حبُّ الستر والصون لعباده،
ويُقال: رجل ستور وسِتِّير؛ أي: عفيف[3].
الستر اصطلاحًا:
ستر المسلم هو تغطية عيوبه وإخفاء هناته[4]،
وعرَّفه ابن حجر - رحمه الله -
عند شرح قوله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -:
((مَن ستر مسلمًا))[5] قائلاً: "أي:
رآه على قبيحٍ فلم يُظهِره؛ أي: للناس،
وليس في هذا ما يقتضي ترك الإنكار عليه
فيما بينه وبينه، ويحمل الأمر في جواز الشهادة عليه
بذلك على ما إذا أنكر عليه ونصحه فلم ينتهِ
عن قبيحِ فعلِه ثم جاهَر به،
كما أنه مأمور بأن يستتر إذا وقع منه شيء،
فلو توجَّه إلى الحاكم وأقرَّ لم يمتنع ذلك،
والذي يظهر أن الستر محله في معصية
قد انقضَتْ، والإنكار في معصية قد حصل التلبُّس بها،
فيجب الإنكار عليه، وإلا رفَعَه إلى الحاكم،
وليس من الغيبة المحرمة،
بل من النصيحة الواجبة"[6].
وعرَّفه النووي - رحمه الله - بأنه:
"الستر على ذوي الهيئات ونحوهم ممَّن
ليس هو معروفًا بالأذى والفساد"[7].
حث الإسلام على الستر على المسلمين:
لقد كثرت النصوص التي تحثُّ على ستر المسلم،
وتحذر من تتبُّع عوراته وزلاَّته ليفضح بين الناس، من ذلك:
1- قوله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -:
((مَن ستَر مسلمًا ستَرَه الله يوم القيامة))[8].
2- وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -
عن النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم -:
((مَن ستَر عورةَ أخيه المسلم، ستر الله عورته يومَ القيامة،
ومَن كشفَ عورة أخيه المسلم،
كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته))[9].
وقد رُوِي عن بعض السلف أنه قال:
أدركت قومًا لم يكن لهم عيوب،
فذكروا عيوب الناس، فذكر الناس عيوبهم،
وأدركت قومًا كانت لهم عيوب،
فكفُّوا عن عيوب الناس فنُسِيت عيوبهم.
وشاهِدُ هذا حديث أبي بَرْزَةَ - رضِي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أنه قال:
((يا معشر مَن أسلم بلسانه ولم يفضِ الإيمان
إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين،
ولا تعيروهم، ولا تتَّبعوا ع وراتهم؛
فإنه مَن يتبع عثرات أخيه المسلم يتبع الله عورته،
ومَن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله))[10].
ومعنى الستر هنا عامٌّ لا يتقيَّد بالستر البدني فقط،
أو الستر المعنوي فقط، بل يشملهما جميعًا، فمَن ستَر مسلمًا ستَرَه الله في الدنيا والآخرة؛ ستَر بدنه كأن رأى منه عورة مكشوفة فستَرَها، أو رأت امرأة شيئًا من جسد أختها مكشوفًا غير منتبهة إليه فغطَّته، وستره معنويًّا فلم يظهر عيبه، فلم يسمح لأحدٍ أن يغتابه ولا أن يذمَّه، مَن فعل ذلك ستَرَه الله في الدنيا والآخرة، فلم يفضحه بإظهار عيوبه وذنوبه.
بل بلغتْ عناية الإسلام بهذا الجانب الاجتماعي الراقي إلى الحثِّ على أن يستر المظلوم عن الظالم، جاء في "الموسوعة الفقهية الكويتية"[11]: "قال العلماء: إنه يجب على المسلم أن يستر أخاه المسلم إذا سأله عنه إنسان ظالم يريد قتله أو أخذ ماله ظلمًا، وكذا لو كان عنده أو عند غيره وديعة وسأل عنها ظالم يريد أخذها، يجب عليه سترها وإخفاؤها، ويجب عليه الكذب بإخفاء ذلك، ولو استحلَفَه عليها لزمه أن يحلف، ولكن الأحوط في هذا كله أن يورِّي، ولو ترَك التورية وأطلق عبارة الكذب، فليس بحرامٍ في هذه الحال[12].
واستدلوا بجواز الكذب في هذه الحال بحديث أم كلثوم - رضي الله عنها -: أنها سمعت رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يقول: ((ليس الكذَّاب الذي يُصلِح بين الناس فينمي خيرًا أو يقول خيرًا))[13].
الله سِتِّير يحب الستر:
والله - سبحانه وتعالى - "سِتِّير" يحب الستر والصون على عباده، قال السيوطي - رحمه الله -: "يعني: أن الله - تعالى - تارِكٌ للقبائح ساتِرٌ العيوب والفضائح"[14]، وقال الطيبي - رحمه الله -: "يعني: أن الله - تبارك وتعالى - تارِك للقبائح ساتر للعيوب والفضائح، يحب الحياء والتستر من العبد؛ لأنهما خصلتان تفضيان به إلى التخلُّق بأخلاق الله تعالى"[15].
وهو أوَّل معافاة الله - عزَّ وجلَّ – لعبده؛ كما أخرج أبو نعيم عن بلال بن يحيى العبسي الكوفي مرسلاً، قال: "إن معافاة الله العبد في الدنيا أن يستر عليه سيئاته"[16].
ثم يتمُّ الله نعمته على هذا العبد؛ كما قال النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((لا يستر الله على عبدٍ في الدنيا إلا ستَرَه الله يوم القيامة))[17].
وقال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((إن الله يُدنِي المؤمن، فيضع عليه كنفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم، أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه هلَك قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم؛ فيُعطَى كتاب حسناته))[18].
من متطلبات هذا الستر:
أن يستر عليه ذنبه في الدنيا:
أجمع العلماء على أن مَن اطَّلع على عيبٍ أو ذنبٍ أو فجورٍ لمؤمن من ذوي الهيئات أو نحوهم ممَّن لم يُعرَف بالشر والأذى ولم يشتهر بالفساد، ولم يكن داعيًا إليه؛ كأن يشرب مسكرًا أو يزني أو يفجر متخوفًا متخفيًا غير متهتِّك ولا مجاهر - يُندَب له أن يستره، ولا يكشفه للعامة أو الخاصة، ولا للحاكم أو غير الحاكم[19]؛ كما قال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((مَن علم من أخيه سيئة فسترها عليه، ستر الله عليه يوم القيامة))[20].
وخصوصًا إذا كان ممَّن يُنسَب لأهل الدين، والطعنُ فيه طعنٌ في الإسلام، والعيبُ عليه عيبٌ في أهل الإسلام، وقد قال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((أقيلوا ذوى الهيئات عثراتهم إلا الحدود))[21].
وقال فضيلة الدكتور وهبة الزحيلي: "يستحب الستر مطلقًا على مرتكب المعصية الموجِبة للحد قبل الرفع إلى الإمام"[22].
لكن المجاهر بالمعصية له شأن آخر، قال العلماء: "وأمَّا المجاهر والمتهتِّك فيستحبُّ ألا يستر عليه، بل يظهر حاله للناس حتى يجتنبوه، وينبغي رفع أمره للقاضي حتى يقيم عليه ما يستحقُّه"؛ لأن سترَ مثل هذا الرجل أو المرأة يُطمعه في مزيدٍ من الأذى والمعصية، وإذا كانت غيبة المسلمين حرامًا، فإن هذا الرجلَ قد أباح للناس أن يتكلَّموا في شأنه بمجاهرته، فأجاز العلماء غيبةَ المجاهر بفسقه أو ببدعته، كالمجاهر بشرب الخمر وغيره، وكما قال الإمام أحمد - رحمه الله -: "إذا كان الرجل معلِنًا بفسقه فليس له غيبة"[23].
لكن العلامة النووي - رحمه الله - أشار إلى أن غيبتَه فيما جاهَر فيه فقط، ويُهتَك فيما جاهَر فيه، ويُحذَّر من شأنه، وأمَّا هجرُه، فإذا كان يرتدِع به فيجب الهجر، والهجر بالمقاطعة وعدم الكلام، وعدم الزيارة وعدم السلام عليه.
قال الإمام أحمد - رحمه الله -: "ليس لِمَن يسكر ويقارف شيئًا من الفواحش حرمة ولا صِلة إذا كان معلِنًا مكاشفًا"[24].