الجواب :
الحمد لله
أولا:
هذه المسألة تعرف بفقه
الموازنة ، أو مراعاة
المصالح والمفاسد ، وهو باب من الفقه دقيق ، وأساس متين ، قامت عليه الشريعة ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " فإن الشريعة جاءت بتحصيل
المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان ، ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعا، ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعا " .
انتهى من " مجموع الفتاوى " (23/343).
وهذه
الموازنة تدخل في الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وقد سبق بيان ذلك بذكر أمثلة له من القرآن والسنة، فانظر جواب السؤال رقم : (217609) ، ورقم : (184242) .
ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فصل نافع سماه: " فصل جامع في تعارض الحسنات ؛ أو السيئات ؛ أو هما جميعا " جاء فيه:
" فالتعارض إما بين:
1- حسنتين لا يمكن الجمع بينهما؛ فتقدم أحسنهما بتفويت المرجوح.
2- وإما بين سيئتين لا يمكن الخلو منهما؛ فيدفع أسوأهما باحتمال أدناهما.
3- وإما بين حسنة وسيئة لا يمكن التفريق بينهما؛ بل فعل الحسنة مستلزم لوقوع السيئة؛ وترك السيئة مستلزم لترك الحسنة؛ فيرجح الأرجح من منفعة الحسنة ، ومضرة السيئة.
فالأول: كالواجب والمستحب ؛ وكفرض العين وفرض الكفاية ؛ مثل تقديم قضاء الدين المطالب به ، على صدقة التطوع .
وكتقديم نفقة الأهل على نفقة الجهاد الذي لم يتعين ؛ وتقديم نفقة الوالدين عليه كما في الحديث الصحيح : ( أي العمل أفضل ؟ قال : الصلاة على مواقيتها ، قلت : ثم أي ؟ قال : ثم بر الوالدين . قلت . ثم أي ؟ قال : ثم الجهاد في سبيل الله ).
وتقديم الجهاد على الحج كما في الكتاب والسنة، متعين على متعين، ومستحب على مستحب [يعني : تقديم الجهاد الواجب المتعين على الحج الواجب المتعين ، وتقديم الجهاد المستحب على الحج المستحب] ، وتقديم قراءة القرآن على الذكر إذا استويا في عمل القلب واللسان، وتقديم الصلاة عليهما إذا شاركتهما في عمل القلب، وإلا فقد يترجح الذكر بالفهم والوجل على القراءة التي لا تجاوز الحناجر . وهذا باب واسع.
والثاني : كتقديم المرأة المهاجرة لسفر الهجرة بلا محرم على بقائها بدار الحرب، كما فعلت أم كلثوم التي أنزل الله فيها آية الامتحان : (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات) ، وكتقديم قتل النفس على الكفر كما قال تعالى : (والفتنة أكبر من القتل) ، فتقتل النفوس التي تحصل بها الفتنة عن الإيمان؛ لأن ضرر الكفر أعظم من ضرر قتل النفس، وكتقديم قطع السارق ورجم الزاني وجلد الشارب على مضرة السرقة والزنا والشرب ، وكذلك سائر العقوبات المأمور بها فإنما أمر بها مع أنها في الأصل سيئة وفيها ضرر ؛ لدفع ما هو أعظم ضررا منها ؛ وهي جرائمها ؛ إذ لا يمكن دفع ذلك الفساد الكبير إلا بهذا الفساد الصغير .
وكذلك في " باب الجهاد " وإن كان قتل من لم يقاتل من النساء والصبيان وغيرهم حراما فمتى احتيج إلى قتال قد يعمهم مثل: الرمي بالمنجنيق ، والتبييت بالليل جاز ذلك ، كما جاءت فيها السنة في حصار الطائف ورميهم بالمنجنيق ، وفي أهل الدار من المشركين يبيّتون، وهو دفع لفساد الفتنة أيضا بقتل من لا يجوز قصد قتله ...
وأما الثالث : فمثل أكل الميتة عند المخمصة ؛ فإن الأكل حسنة واجبة لا يمكن إلا بهذه السيئة ، ومصلحتها راجحة ، وعكسه الدواء الخبيث ؛ فإن مضرته راجحة على مصلحته من منفعة العلاج لقيام غيره مقامه ؛ ولأن البرء لا يتيقن به ، وكذلك شرب الخمر للدواء .
فتبين أن السيئة تحتمل في موضعين: دفع ما هو أسوأ منها إذا لم تدفع إلا بها، وتحصيل ما هو أنفع من تركها إذا لم تحصل إلا بها.
والحسنة تترك في موضعين : إذا كانت مفوتة لما هو أحسن منها ؛ أو مستلزمة لسيئة تزيد مضرتها على منفعة الحسنة ، هذا فيما يتعلق بالموازنات الدينية .
وأما سقوط الواجب لمضرة في الدنيا ؛ وإباحة المحرم لحاجة في الدنيا ؛ كسقوط الصيام لأجل السفر ؛ وسقوط محظورات الإحرام وأركان الصلاة لأجل المرض، فهذا باب آخر يدخل في سعة الدين ورفع الحرج الذي قد تختلف فيه الشرائع ؛ بخلاف الباب الأول ؛ فإن جنسه مما لا يمكن اختلاف الشرائع فيه وإن اختلفت في أعيان ه، بل ذلك ثابت في العقل كما يقال : ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر ، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين " .
إلى أن قال: " فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أوكدهما لم يكن الآخر في هذه الحال واجبا، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة ، وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرما في الحقيقة ، وإن سمي ذلك ترك واجب ، وسمي هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر ، ويقال في مثل هذا: ترك الواجب لعذر ، وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو للضرورة ؛ أو لدفع ما هو أحرم ، وهذا كما يقال لمن نام عن صلاة أو نسيها : إنه صلاها في غير الوقت المطلق قضاء . هذا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ، فإن ذلك وقتها ، لا كفارة لها إلا ذلك) .
وهذا باب التعارض باب واسع جدا لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة، فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة، فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات : وقع الاشتباه والتلازم، فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة أو يتبين لهم فلا يجدون من يعينهم على العمل بالحسنات وترك السيئات ؛ لكون الأهواء قارنت الآراء ، ولهذا جاء في الحديث : (إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات) . فينبغي للعالم أن يتدبر أنواع هذه المسائل" انتهى من " مجموع الفتاوى " باختصار (20/48-58). وراجعه بتمامه فإنه مهم.
ولابن القيم رحمه الله تقرير نافع أيضا في هذا الباب .
قال رحمه الله: " هذا فصل عظيم النفع جدا وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب
المصالح لا تأتي به؛ فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد".
ثم قال: " ونحن نذكر تفصيل ما أجملناه في هذا الفصل بحول الله وتوفيقه ومعونته بأمثلة صحيحة:
المثال الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ، ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه ، وأبغض إلى الله ورسوله : فإنه لا يسوغ إنكاره ، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم ، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر .
وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها وقالوا: أفلا نقاتلهم ؟ فقال : لا ؛ ما أقاموا الصلاة .
وقال: من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر ولا ينزعن يدا من طاعته.
ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك مع قدرته عليه خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء...
المثال الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى أن تقطع الأيدي في الغزو). رواه أبو داود. فهذا حد من حدود الله تعالى وقد نهى عن إقامته في الغزو خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخيره، من لحوق صاحبه بالمشركين حمية وغضبا، كما قاله عمر وأبو الدرداء وحذيفة وغيرهم..." انتهى من " إعلام الموقعين " (3/3-5).
ثانيا:
أما مصافحة الأجنبية القريبة لدرء مفسدة نفورها من الدعوة، فهنا مفسدتان، والظاهر أنه يمكن دفعهما معا فلا يتعين ارتكاب واحدة منهما.
وذلك بأن يقرن عدم المصافحة ببيان الحكم الشرعي وأنه ما امتنع من ذلك إلا امتثالا لأمر الشرع، مع إقراره بمكانة هذه القريبة وحقها عليه، ونحو ذلك مما يطيب خاطرها، ويمنع نفورها.
ثالثا:
المحرمات درجات، فالمحرم تحريم مقاصد أشد من المحرم تحريم وسائل، وهذا الأخير يباح للحاجة، كما أبيح النظر للمخطوبة، ونظر الطبيب لموضع الألم، لأن تحريم النظر هو من باب تحريم الوسائل. قال ابن القيم رحمه الله: (وما حرم تحريم الوسائل، فإنه يباح للحاجة، أو المصلحة الراجحة، كما يباح النظر إلى المخطوبة، ومن شهد عليها، أو يعاملها، أو يطبّها) انتهى من " زاد المعاد " (2/242). وانظر بيان هذه القاعدة في جواب السؤال رقم : (130726) .
وهذا داخل في فقه
الموازنة ، فإذا تعارضت المصلحة الحاجية، مع المفسدة التي حرمت تحريم وسائل ، ارتكتبت المفسدة ، وهذا لا يعارض قاعدة: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"، فإنها مقيدة بما إذا استوت المصلحة والمفسدة في الرتبة، كما هو مبين في جواب السؤال رقم : (184242) .
ومما سبق يعلم جواب سؤالك الأخير، فالموازنة لا تختص بالمستحبات والمكروهات، بل تدخل في عموم المراتب.
والخلاصة :
أن هذا الباب من أبواب العلم هو من أدق الأبواب ، ويحتاج إلى فقهٍ دقيق بالمصالح
والمفاسد الحقيقية – لا المتوهمة- ومعرفة مراتبها حتى يمكن الترجيح بينها بعلم وعدل ، والناس في هذا طرفان ووسط ، كما تقدم في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
وانظر السؤال رقم : (217609) للوقوف على بعض الأدلة وأقوال العلماء في "فقه الموازنات" .
والله أعلم.