حفلت الحضارة الإسلامية بالكثير من العمائر التي انفرد وتميز بها المجتمع الإسلامي دون غيره من المجتمعات البشرية عبر العصور، واستمدت هذه العمائر مقومات وجودها وازدهارها من طابع الرحمة والصفاء النفسي والروحي الذي اتصفت به شريعة الإسلام.
منها: الربط والخانقاوات والزوايا والتكايا، وكلها عمائر ومنشآت روحية لم يعرفها العالم إلا في المدن الإسلامية، وقد ظهرت هذه المنشآت منذ القرن الأول للهجرة، وانتشرت في شرق العالم الإسلامي في القرن الرابع الهجري.
الرباط في الإسلام
وأول هذه المنشآت ظهورا هو الرباط، الذي أسس في أول الأمر كمنشأة عسكرية، وأخذ اسمه من المرابطة في سبيل الله، ومنه سميت دعوة المرابطين ودولتهم، وسميت مدينة الرباط في المغرب، التي كانت على حدود الدولة الإسلامية، وكانت مأوى للمجاهدين في سبيل الله المرابطين على حدود الدولة.
ومن المرجح أن نظام الخانقاوات الذي ظهر بعد ذلك أُخذ عن الرباط، حيث إنه في الرباط كان المرابطون يؤهلون دينيًا وروحيًا بجانب تدريبهم عسكريًا للجهاد والدفاع عن حدود الدولة الإسلامية، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]، وقال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]، وكان الرباط يقام على الحدود وقد ظهر الرباط قبل الخانقاه.
فالأربطة ظهرت كمنشآت حربية الهدف منها الدفاع عن الثغور
الإسلامية في مواجهة أي اعتداءات من قبل أعداء الإسلام، ومازال إلى يومنا هذا بتونس اثنان من هذه الأربطة: الأول رباط المنستير، الذي شيده هرثمة بن أعين سنة 180ه / 796م، والرباط الثاني: هو رباط سوسة على خليج قابس في شمال أفريقيا والذي أسس سنة 206هـ / 821م.
تقلص دور الأربطة
وقد أدى توقف حركة الفتوحات
الإسلامية إلى تقلص دور الأربطة، وزاد في هذا تغير نمط الجيوش الإسلامية، وهو ما أدى إلى تغير وظيفة الأربطة، وفقدها لطابعها الحربي، وصارت لها وظائف متعددة، حيث تغلبت عليها الصفة الدينية وحدها، ومع انتشار التصوف تحولت إلى دور للصوفية ما جعل مصطلح رباط مرادفا لمصطلحي خانقاه وزاوية.
وهكذا تبدلت الأمور، وغدت
الأربطة تقام في الأماكن العامرة، بعد أن كانت تقام في أطراف المدن وعلى حدود الدولة، وصارت ملاجئ مستديمة لفريق من الناس يستحقون الرعاية، وبخاصة أصحاب العاهات وكبار السن والعميان، وقد ذكر المقريزي أن سلطان المماليك بيبرس الجاشنكير بنى رباط خصصه لمن قعد بهم الوقت، ويقول ابن الفوطي عن رباط الشيخ محمد السكران في العراق أنه كان مأوى للمسافرين والمحتاجين، وكانت له قواعد معينة في توزيع المال والطعام على الفقراء كل عام.
أربطة لرعاية النساء
وظهرت في المدن
الإسلامية ربط تحقق الرعاية الاجتماعية للنساء، فقد، وُجدت أربطة كانت ملاذًا ومقامًا للسيدات والأرامل والمطلقات والمسنات ممن لا عائل لهن وممن قعد بهن الزمن، توفر لهن حياة كريمة شريفة من إقامة ومأكل وملبس ومشرب صيانة لهن من الانحراف، مع مواظبتهن على العبادات وتوافر الرعاية والإشراف الدائم.
وكانت تقيم إحداهن بالرباط إلى أن تتزوج أو تعود إلى زوجها أو يقضي الله أمرًا كان مفعولًا، وهو سبق لا مراء فيه للحضارة
الإسلامية في مجال الرعاية الاجتماعية.
وقد انتشرت هذه
الأربطة في المدن الإسلامية، فقد أوقف الخليفة العباسي المستعصم بالله دار الشط المجاورة لدار الملك في بغداد سنة 652هـ رباطًا للنساء المحتاجات وجعل مشيخته للشريفة أنَّة المهتدي بالله وهي التي كانت تتولى تعليمهن وإرشادهن.
وفي دمشق أنشأت فاطمة الأيوبية سنة 650هـ/ 1252م رباطًا للنساء الفقيرات وكتبت فوق بابه: "وقفت هذه الخانكاه الرباط فاطمة بنت الملك العادل محمد بن الكامل بن أبي بكر بن أيوب على المقيمات بها، وإظهارًا للصلوات الخمس والمبيت فيها".
وزخرت مدينة فاس بالكثير من
الأربطة الخاصة برعاية النساء حتى نستطيع أن نعتبرها أهم المدن
الإسلامية في مجال منشآت الرعاية الاجتماعية.
أربطة النساء في القاهرة والفسطاط
وانتشرت أربطة النساء في مدينتي القاهرة والفسطاط، فيذكر المقريزي مؤرخ مصر
الإسلامية عن هذه الأربطة: أنها كانت دورًا يطلق على كل منها رباط، وأنها على هيئة ما كانت عليه بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يكون فيها العجائز والأرامل والعابدات، وكانت لها الجرايات.
ومن أشهر أربطة القاهرة والفسطاط التي ذكرها المؤرخون، والتي كانت مخصصة للنساء:
رباط الأشراف: أنشأه أبو بكر محمد بن علي المارداني وأوقفه على نساء الأشراف المنكوبات من اللواتي أعوزهن النصير وقعد بهن الحظ وشرط أن تكون في الرباط شيخة عالمة تقية جليلة تشرف على من فيه وتتولى أمورهن ؛ فتخفف من بؤسهن وترشدهن وتعلمهن وتفقهن في الدين.
رباط الأندلس: أنشأته السيدة علم الآمرية عام 526هـ/ 1122م. لإيواء العجائز والأرامل والمنقطعات، وخصصت لهن ما يكفيهن وجددت لهن بجانبه مسجد الفتح، وكان الرباط يقع غربي هذا المسجد. الذي كان يعرف بمسجد الأندلس، وفي عام 754هـ بنى الحاجب لؤلؤ العادلي برحبة الأندلس والرباط بستانًا وأحواضًا ومقعدًا وجمع بين مُصلَّى الأندلس والرباط بحائط بينهما.
رباط البغدادية: أنشأته السيدة الجليلة تذكار باي خاتون ابنة الملك الظاهر بيبرس سنة 648هـ/ 1285م بداخل الدرب الأصفر بالقاهرة. وقد أوقفته على الشيخة الصالحة زينب ابنة أبي البركات المعروفة ببنت البغدادية، فأنزلتها به ومعها مجموعة من النساء الخيرات يساعدنها في إدارته، وكانت عالمة زاهدة قانعة خيِّرة تعظ النساء وتفقهن، وصارت كل من قامت بعدها بمشيخة هذا الرباط يُطلق عليها اسم البغدادية.
وقد أدرك المقريزي هذا الرباط عامرًا، وأدرك به إحدى المرشدات وهي الشيخة الصالحة سيدة نساء زمانها "أم زينب فاطمة بنت عباس البغدادية" تُوفيت وقد أنافت على الثمانين، وكانت فقيهة وافرة العلم، زاهدة قانعة عابدة، وكان لها قبول زائد ووقع حسن في النفوس.
قال المقريزي عن رباط البغدادية في مصر: "وأدركنا هذا الرباط وتودع فيه النساء اللاتي طُلقن أو هُجرن حتى يتزوجن أو يرجعن إلى أزواجهن رعاية لهن، وفيها من شدة الضبط وغاية الاحتراز والمواظبة على وظائف العبادات"