إن الإبداع الحقيقي يحتاج لصناعة عقول متحررة من قوالب التكرار ومساوئ الاستنساخ، محلِّقة في رحابة التجديد.
والتواصل الايجابي بين الداعية ومن حوله من خلال توجيه التصورات والمشاعر نحو البناء وتوفير بيئة موائمة للرقي بالأداء الإبداعي، هي التي تنتج تلك الشخصيات المبدعة.
إن النجاح الحقيقي للداعية يتحقق بمشاركة الآخرين في صنع أحلامهم ورسم خريطة آمالهم، بعيداً عن سلب الأحلام من عقولها وإلباس الآخرين رداء لا يتسع لهم.
الإبداع في الحضارات الإنسانية ضرورة من ضرورات الحياة لتطوير مهارات الإنسان وإثراء معارفه، وتجديد الحياة بالتجارب وكسر الرتابة. المبدع هو القادر على حسن الإنتاج والعطاء وتغيير الواقع نحو الأفضل. والحرمان من الإبداع يمثل جريمة حقيقية؛ لأنه يقتل الطاقات ببطء، ويفتح أبواب الجمود الفكري والتبلد العقلي، ويفقد الإنسان الثقة فيما لديه من قدرة على تطوير النفس وتغيير الواقع.
يمضي بعض الدعاة في دعوته بصورة تلقائية وممارسة نمطية دون أن يعطي للتجديد حقه، فيغيب عن بصره نداء التغير بداخله وفيمن حوله، وتختفي من دعوته معالم الابتكار ومحفزات الإبداع، فلا يجهد نفسه لكسر الجمود، ولا يتفنن في بناء صرح الإبداع في نفوس الآخرين.
إن الهزيمة الحقيقية التي تحدث بداخلنا وتقتل ذواتنا، عندما يغدو مبلغ طموحنا هو تقليد الآخرين وتبني أفكارهم، بحيث نحلق حول شخوصهم، ونبرع في تلقي الأفكار دون صناعتها، وفي استهلاكها دون القدرة على توليد أفكارنا الخاصة؛ فتتعطل حواسنا عن العمل، ويُقتل في ذواتنا القدرة على المبادرة والتجديد.
كما أن صناعة العقول المأمولة تحتاج إلى تجرد في الصناعة وإخلاص في العمل؛ لأن الهوى وحب الذات قد يطغيان عل صاحبهما ويدفعانه لصناعة نسخ مكررة من ذاته، ورسم ملامح طموحاته في نفوس الآخرين لتفكر كما يفكر، وتناقش كما يناقش، وتهتم بما يهتم، ولا ترفع رأساً ولا تخطو خطوة في غير ما يريد.
الوسط الدعوي الذي تُشكِّل فيه ( صناعة القوالب ) أساسَ بنائه _ حيث يرتدي بعضهم رداء غيره _ لا يتحقق فيه الإبداع ولا تنمو فيه قابلية التعلم، ويُحصر فيه المرء في دائرة ضيقة وحياة رتيبة، ومن الصعب جداً أن يتوفر في بيئة فقيرة في إبداع أفرادها الأداءُ الجيد والمعنويات المرتفعة.
إن تربية القوالب لا تُخرج غير نسخ مكررة تتآكل شخصيتها، ويبهت طموحها، ويخفت بداخلها نبض الإبداع، وقد تذهب بصاحبها إلى موتِ فكرهِ وضعف عقله.
وفي المقابل؛ فإن الوسط الدعوي القائم على مراعاة تميز الآخرين في شخوصهم وفتحِ مجالات التجديد والابتكار، يمنح المشاركين في هذا الوسط مساحات كبيرة نحو الإيجابية والعطاء كطريق سريع إلى التطور والإبداع.
لا يصح في حسابات الدعاة التفنن في صناعة نسخ مكررة من ذواتهم، مهما بلغ بهم علو الهمة وارتفعت هاماتهم إلى عنان السماء؛ يدفعهم إلى ذلك معالم الانبهار في عيون متبعيهم وعلامات الرضا في نفوس من حولهم؛ فالطاقات تتفاوت، والهمم تختلف، والميول والرغبات في نفوس أصحابها لا يصح إهمالها وتجاوزها، وما يوقِظ هِمةُ أو يحفز نفساُ قد يميت الأمل في نفوس الآخرين.
لقد نميز في جيل الصحابة أبو بكر الصديق بورعه، وعمر الفاروق بحزمه، وأبو عبيدة بن الجراح بأمانته، وخرج منه أبو ذر الزاهد، وابن عباس الفقيه؛ والكل قد تربى على مائدة واحدة، وتتلمذ على يدي معلم واحد ملهِمٍ في صناعته، فريدٍ في تربيته، مؤيَّد بالوحي في خطواته. ومع روعة الانبهار به وعظيم شخصيته وتنوُّع شخوص من حوله، غير أنه _ صلى الله عليه وسلم _ أبدع في كسر قوالب الجمود، فأخرج جيلاُ متفرداً في فكره، متفرداً في عظمة نفوس أصحابه، يحمل كل منهم عالَماً من التميز الخاص والإبداع الفريد.
كما أن الخوف من سَبْقِ الآخرين لا يعرف طريقاً لقلوب المخلصين من الدعاة، ولا يمنعهم من استفراغ الوسع وبذل المزيد من الجهد لتوليد الطاقات واكتشاف مكامن التميز لدى الآخرين، وإفساحِ الطريق لبناء معالم الإبداع في نفوسهم.
والتواصل الإيجابي بين الداعية ومن حوله من خلال توجيه التصورات والمشاعر نحو البناء وتعلُّم مفردات لغة التميز الخاصة واكتشاف الذات؛ هي التي تنتج تلك الشخصيات الفردية التي تصنع التاريخ.
وعندما يفتح الدعاة لمن حولهم السبل لتتدفق فيها الأفكار وتنشط بها الإبداعات، تبرز فيها خيرات التي وضعها الله بداخلنا، لننعم بها وتنعم بها أمتنا.
إن المكسب الحقيقي للداعية عندما ينجح في غرس بذرة الإبداع في نفوس من حوله، وتوفير بيئة موائمة للرقي بالأداء الإبداعي من خلال جو التفاعل، والأخذ بجانب العطاء، والتلقي بجانب النقد، والاستيعاب بجانب المناقشة وتشجيع المناظرة وإذكاء روح التنافس، ودفع الآخرين إلى آفاق واسعة من العطاء الإبداعي والفكري لتجاوز الجمود، وإعطاء حق الابتكار لمن يستحقه، وإطلاق الطاقات الإبداعية من معاقلها، وتحريك النفوس نحو المعالي لتكسر حواجز الإلف ورتابة الجمود.
وبقدر ما ينجح الدعاة في بناء صروح التميز الخاص في نفوس من حولهم، حين يملؤون الأرواح بالثقة في الله وبالثقة في أنفسهم، فتتجر العقول من المخاوف وترغب في صنع المستحيل؛ بقدر ما تمتلئ النفوس بالتقدير المضاعف لهؤلاء الصناع الذين أقاموا صروح الإبداع في نفوس الآخرين.
بذلك يسجل الدعاة انطلاقاً متميزاً وخطوات مثمرة وجهداً مشكوراً، والبناء الإبداعي لا ينتهي إلا بموت الإنسان.
إن النجاح الحقيقي للداعية يتحقق بمشاركة الآخرين في صنع أحلامهم ورسم خريطة آمالهم، واكتشاف مكامن قوتهم لتصبح مصدراً للتعبير عن أرواحهم وخوالجهم، ليس للداعية في ذلك سوى ترشيد الخطوات، وتفجير الطاقات، وتنمية المواهب، وتعليمهم أنماط البناء وقواعد التميز، بعيداً عن سلب الأحلام من عقولها وإلباس الآخرين رداء لا يتسع لهم.