يقول (بافلوف) عالم النفس الشهير (لقد بحثت عن السعادة طويلا فوجدتها بالمعرفة والعلم ) وتستطيع التأكد من المقولة ببساطة لو راقبت طفلا عمره يزيد عن العامين كيف ينهمك ويستمتع باكتشاف ماحوله بولع غير اعتيادي من منظور الكبار ،ذلك الصغير يتعلم في كل لحظة أشياء جديدة باستخدام كل حواسه بشكل صحيح وكذلك بشكل خاطئ ,إنه يفعل ذلك بشغف ومتعة والدليل على ذلك بكاؤه الشديد عند منعه من الاستمرار بالاكتشاف أو العبث . ولكن هل هذا الاكتشاف تعلُّم ؟ ولمَ نفقد هذا الشغف والمتعة في
التعلم ؟
يعرف جانييه
التعلم بقوله (يحدث
التعلم عندما يتوفر بالموقف عناصر منبهة أو مثيرة تؤثر في المتعلم بطريقة تجعل سلوكه يتغير من وضع معين قبل هذا الموقف إلى وضع آخر بعده، وهذا التغيير في الأداء هو ما يؤدي إلى الاستنتاج أن تعلما قد حدث ( يستخدم مصطلح
التعلم في علم النفس بمعنى أوسع بكثير مما نعتقد,فهو لا يقتصر على
التعلم المدرسي والموجه بل يشتمل على ما يكتسبه الفرد من معارف ومعانٍ وأفكار واتجاهات وعواطف وعادات وقيم واستراتيجيات ... إننا جميعا نتعلم فطريا ورسميا ونكتسب خبرات وقيماً ومعتقدات جديدة ومتنوعة، ونتعلم عند كل موقف وحدث في الحياة، يمتد التعليم على امتداد
الحياة من المهد إلى اللحد ويتم في كل الأوقات وفي جميع المجالات ويتحقق بصورة واعية ومقصودة وإرادية حينا وبصورة عفوية وغير مقصودة ولا إرادية حينا آخر،إننا نتعلم أساليب الكلام وطرائق التعبير عن الانفعالات ,ونتعلم المشي والجري والتسلق والقفز والقراءة والكتابة،نتعلم الصدق والخجل والخوف،نتعلم السلوك السوي والمنحرف . تعرف د. رمزية الغريب
التعلم بأنه (تعديل في السلوك يساعد المتعلم على حل المشكلات التي تصادفه وتحقيق المزيد من التكيف مع بيئته).
يشترط هذا التعريف أن يكون السلوك الجديد إيجابيا ويحقق تكيفا أفضل مع البيئة، حتى نقول إن تعلما قد حدث ! أليس السلوك المنحرف أو السلبي تغيرا في الأداء ؟ هذا ما تؤكده نظرية العجز المكتسب لصاحبها عالم النفس مارتن سليغمان ,يوضح سليغمان من خلالها نشوء السلبية والانسحابية لدى الإنسان من خلال تجارب أجراها على الحيوانات (الكلاب) وتابعها فيما بعد على السلوك الإنساني .جوهر التجربة هو تعلم الكلاب العجز والانسحابية وذلك على مرحلتين :في المرحلة الأولى تم ربط الكلاب وصدمهم كهربائيا مع رنات الجرس وتكرار ذلك وكانت استجابة الكلاب محاولة النباح ومحاولة الهرب بأقصى ما يمكن لمجرد سماع الجرس (هنا تعلم الكلاب سلوك الهرب من مثير غير مؤذٍ لاقترانه بمثير مؤذٍ ) وفي المرحلة الثانية تم فك قيد الكلاب ورن الجرس وكان من المفروض أن تحاول الكلاب الهرب ولكن المفاجأة أن العدد الأكبر من الكلاب ظل ساكنا ولم يتحرك أو يدافع (هنا تعلم الكلاب الخضوع والاستسلام بالرغم من غياب القيد ) ولاحقا وجد سليغمان أن نظرية العجز المكتسب تنطبق حرفيا على سلوك البشر وتساعد على تحليل وفهم مرض الاكتئاب وحالات العجز النفسي لدى الإنسان ،وإذا عدنا إلى التجربة السابقة بالإسقاط على سلوك الإنسان نجد أن ال*** تعلم في المرحلة الأولى سلوك الهرب من مثير غير مؤذ لاقترانه بسلوك مؤذ ويتطابق ذلك مع الكثير من سلوكاتنا ، ألم يحدث أن كرهت مادة دراسية ليس لصعوبتها أو مضمونها، ولكن لمجرد اقترانها بمعلم قاس أو فظ ؟وكم يحدث أن نتعلم هواية أو عملا لارتباطه بأشخاص نحبهم، وحتى بعد غياب الأشخاص عن العمل أو المكان غالبا ما يبقى السلوك المتعلم ونصل إلى سلوكيات كثيرة التعقيد متعلمة نتيجة لارتباطها بمثيرات أخرى ,إن السلوك المتعلم هو مجموعة منظمة من الارتباطات. وفي المرحلة الثانية من التجربة نجد أن ال*** تعلم الخضوع والاستسلام وذلك يطابق ما يحدث معنا فالإنسان يواجه صعوبات ومشكلات في
الحياة ويحاول تخطيها وقد يفشل، ويحاول ثانية ويفشل ومع تكرار الفشل يتعلم بعضنا العجز والاستسلام، وحتى ولو زالت الصعوبات والظروف غير المرغوب بها، فإنه قد تعلم أن يتوقف عن المحاولة، وفي
الحياة أمثلة كثيرة عن تعلم العجز منها الزوجات اللواتي يتعرضن لاضطهاد أزواجهن ولا يهجرن ولا يحاولن فعل شيء للتغيير ,وبعض الأشخاص الذين يستسلمون لعمل لا يرضيهم ولا يحقق ذاتهم بعد محاولات غير ناجحة . العجز المكتسب هو ما يحول دون أن يكون لدينا سيطرة على ظروفنا ويجعلنا نرضى ونقبل أوضاعا وأعمالا وعلاقات غير مرغوب بها من أجل البقاء.
والفكرة الرئيسة هي الاستسلام للقيد حتى ولو غاب، والقيد هنا ربما يكون الأسرة ،التقاليد، المهنة، نظام الحكم . إن محاولات الإنسان خلال مسيرة حياته تعلمه أمورا كثيرة أخطرها وأسوؤها على الإطلاق الخوف من الفشل .ولكن لا تؤثر الصدمة والتجارب في الأفراد بنفس الطريقة، فهناك من يتعلم الاستسلام بعد محاولة أو عدة محاولات غير ناجحة، وهناك من يتعلم الإصرار ومضاعفة العمل والتحدي عند مواجهة تجارب غير ناجحة , وفي
الحياة أمثلة كثيرة عن أفراد تعلموا النجاح من مواقف
الحياة الصعبة والمحاولات الفاشلة .فهذه (جوان كاثلين رولينج) كاتبة الفيلم الأشهر هاري بوتر والتي بدأت الكتابة لحاجة مادية شديدة وقد أرسلت (رولينج) كتاباتها إلى تسع دور نشر للأطفال، وتم رفضها، ولكنها استمرت بالبحث عن دور نشر أخرى حتى نشرت سلسلتها الأولى وتابعت كتاباتها، حتى أصبحت نجمة وكاتبة معروفة . وهذا (فان كلويفرت) مزارع هولندي هاجر إلى جنوب إفريقيا للبحث عن حياة أفضل وكان قد باع كل ما يملك في هولندا على أمل شراء أرض أفريقية خصبة؛ ليحولها إلى مزرعة وبسبب جهله دفع كل ماله في أرض جدباء ليس هذا فحسب، بل كانت مليئة بالعقارب والأفاعي السامة، وبينما هو جالس يفكر بقسوة ما حدث معه خطرت بباله فكرة غير متوقعة ,لماذا لا ينسى مسألة الزراعة برمتها ويستفيد من كثرة الأفاعي حوله لإنتاج مضادات السموم الطبيعية، وهكذا حقق (فان كلويفرت) نجاحا سريعا وخارقا حيث تحولت مزرعته إلى أكبر منتج للقاحات السموم في العالم . هذا المزارع تعلم من الإخفاق أن يقوم بشيء جديد , أخطأ فغيّر المسار تعلم من الإخفاق أن يستنبط قدرات كامنة . وتحضرني أيضا تجربة الكاتبة المتخصصة في علم النفس (آرنيلد لوفينغ)آرنيلد سيدة نرويجية اجتاحتها وهي في الخامسة عشرة من عمرهاعاصفة من القلق أفقدتها توازنها النفسي، كما فقدت القدرة على التواصل مع الآخرين ,شخّص الأطباء حالتها، بأنها مصابة بمرض الفصام وقرروا أنه محكوم عليها بالبقاء أسيرة مرضها العقلي حتى نهاية حياتها لكن (آرنيلد) نجحت في الخروج من حالتها الميؤوس منها، بل وأصبحت متخصصة في علم النفس في بلادها وكتبت (طريق العودة من الفصام ) وتروي فيه مغامرتها في الانتقال من الجنون إلى معالجة الذين يعانون من أزمات نفسية . رغم الصورة القاتمة للتجربة التي عاشتها الكاتبة (آرنيلد) فإنها تركز على القول إنها بالوقت ذاته تجربة تدعو للتفاؤل ! وعلى هذا إن (آرنيلد) لم تفقد شغفها للتعلم وحبها للحياة . كيف استمرت (رولينج) بالمحاولة رغم تكرار الفشل ؟ وكيف استطاع المزارع (فان كلويفرت) أن يحول خسارته إلى ربح وفشله إلى نجاح ؟ بل كيف لمريضة فصام أن تتجاوز الشفاء إلى أن تكتب مؤلفا تعليميا عن تجربتها ومرضها ؟ ما المحك والفرق الأساسي بين إنسان يتعلم العجز والانسحابية من مواقف
الحياة الصعبة وصدمتها وآخر يتعلم الإصرار واستنباط القدرات الكامنة والتطوير والتغيير في أساليب التكيف لديه ؟ يؤكد المختصون أن طريقة وأساليب التفكير هي المحك الرئيس والفاصل بين الطرفين .والسؤال الأهم هنا : ما أساليب التفكير التي تقودنا إلى
التعلم الإيجابي؟ وكيف نستطيع التحكم بأفكارنا لنصل إلى أعلى مستويات
التعلم ؟ الخطوة الأولى في الطريق للتعلم الإيجابي هي اكتشاف الكلمات والحوار الداخلي ، اكتشف الكلمات التي تقولها بقلبك والتي تحدث نفسك بها ، كن يقظا ارصد الأفكار والخواطر الضمنية التي تلمع بذهنك، لا تدع إحساس العجز يتسرب إليك عند الفشل والمواقف الصعبة ،اطرد الإحساس من داخلك وذلك باستبدال الكلمات والأفكار التي تقولها لنفسك بكلمات إيجابية داعمة لذاتك ولابد أن تسودك فكرة أنك قوي وقادر على المضي قدما والمتابعة مهما واجهت من خيبات وذلك بعزل نفسك عن التجربة والإخفاق ، قل هذه تجربة فاشلة ولا تقل فشلت ؛ فهناك دوما أمور فوق إرادتنا وخارجة عن ضبطنا كبشر . والخطوة الأهم أن تعود لنفسك وتبحث في داخلك عن القدرات والمواهب الكامنة ، وتبحث في داخلك عن القدرات والمواهب الكامنة، ففي كل نفس جواهر وأحجار كريمة مغمورة مستورة وتبقى كذلك إلى أن يستنبطها صاحبها ويستخرجها من أعماقه؛ فتلمع وتصبح ظاهرة للعيان . ألا تعلم أن الألماس أصله فحم، ولولا أن استخرجه الإنسان من المناجم وعالجه بالصقل والتشذيب لبقي فحما كامنا في باطن الأرض . وقد يفيد أن تصغي إلى الإخفاق،عد إلى تجربتك وعالجها بالتحليل والتفسير والنقد، ولكن حذارِ من الغرق فيها ،حذار من اللوم والندم، تذكر دوما حديث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف وفي كل خير ،احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز و لاتقل لو أني فعلت كذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان ).
في هذا الحديث ينهانا رسولنا ومعلمنا عن الإحساس بالعجز ويأمرنا بالاستعانة بالله دوما، والتوقف عن لوم النفس أو الندم، والتسليم بقضاء الله وقدره وهذا يعني عدم النبش بذاتنا وبالتجربة الفاشلة، نحلل ونفسر ونستفيد من الخطأ نعم، ولكن لا نرسم الماضي من جديد، بل نتجه إلى ما بأيدينا ونرسم مصيرنا بأن نسيطر على أفكارنا ونحيي ما مات من عزائمنا . فكم من قدر كرهناه وكان في باطنه النجاة، وكم من نقطة في حياتنا ظنناها القاتلة والمدمرة وكانت هي نقطة التحول وبداية الإنجاز والسعادة. إن الإخفاق مؤلم على المدى القصير، ولكنه مفيد لنا على المدى الطويل، فعندما ننظر إلى المواقف والأحداث بحياتنا بهذه الطريقة يعود إلينا شغف ومتعة
التعلم في
الحياة .
إن
التعلم في معناه الواسع مطابق للحياة نفسها. وإننا في عصرنا الحالي في مواجهة دائمة مع التطور المعرفي والتكنولوجي الذي لا يتوقف، ونحن إذ أصبحنا في سعي مستمر للحاق به لابد أن نوازن في أنظمتنا التربوية والتعليمية بين دفق المعرفة المستمر وبين القيم التي على المربين ترسيخها، والتي في مقدمتها تطوير الكفاءة البشرية، وذلك بغرس مبدأ
التعلم الذاتي في نفس المتعلم، والتفكير الناقد لسلوكات حياته اليومية من أجل التعامل مع المواقف الحياتية بطريقة أكثر ذكاء . وليبقَ دوما في ذهننا قول عبد الله الصالح الرجل الذي حباه الله من علمه الخاص والذي جاء ذكره في سورة الكهف، كما جاء في صحيح البخاري باب الخضر مع موسى عليهما السلام (فلما ركبا في السفينة جاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة أو نقرتين قال له الخضر يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر) .إذا كان هذا حال نبي الله وعبده الصالح الذي أعطاه من علمه؛ فما حال علمنا نحن ؟!