سماحة الرسول مع صفوان بن أمية
صفوان بن أمية
لم يكن صفوان بن أمية بن خلف يختلف كثيرًا عن عكرمة بن أبي جهل
؛ فقد كان أبوه من أشد المعاندين للرسول
، ومن الذين قُتِلُوا في بدر، وورث صفوان بن أمية هذه الكراهية من أبيه للإسلام والمسلمين، وحارب
الرسول بكل طاقته، وكان ممن التفَّ حول ظهر المسلمين في غزوة أحد هو وخالد بن الوليد
، واشترك اشتراكًا كبيرًا في قتل سبعين من شهداء الصحابة –رضي الله عنهم أجمعين، واشترك أيضًا في غزوة الأحزاب، وكان من الذين شاركوا في عملية القتال في داخل مكة المكرمة.
بل إن صفوان بن أمية كان قد دبَّر محاولة لقتل
الرسول ، وكانت هذه المحاولة بينه وبين ابن عمه عمير بن وهب، وكان وقتها لا يزال كافرًا.. وفيها تعهَّد صفوانُ بن أمية لعمير بن وهب أن يتحمل عنه نفقات عياله، وأن يسدِّد عنه دَيْنه، في نظير أن يقتل عميرٌ رسول الله
..!!
غير أن المحاولة فشلت، وذلك عندما أسلم عمير بن وهب
في المدينة المنورة بعد أن أخبره
الرسول بما دار بينه وبين صفوان في حجر الكعبة!!
بر
الرسول مع صفوان بن أمية
ومرَّت الأيام، وجاء فتح مكة، وفرَّ صفوان بن أمية، ولم يجد له مكانًا في مكة المكرمة، وعلم أنه لن يُسْتَقْبَلَ في أي مكان في الجزيرة العربية؛ فقد أصبح الإسلام في كل مكان، فقرَّر أن يُلقِي بنفسه في البحر ليموت، فخرج صفوان في اتجاه البحر الأحمر ومعه غلام اسمه يسار، وليس معه أحد غيره حتى وصل إلى البحر الأحمر، وهو في أشد حالات الهزيمة النفسية، ورأى صفوان من بعيد أحد الرجال يتتبعه، فخاف، وقال لغلامه: ويحك! انظر من ترى؟
قال الغلام: هذا عمير بن وهب.
فقال صفوان: وماذا أصنع بعمير..؟! والله ما جاء إلا يريد قتلي، فهو قد دخل في الإسلام، وقد ظاهر محمدا عليَّ.
ولحق عمير بن وهب
بصفوان بن أمية، فقال له صفوان: يا عمير، ما كفاك ما صنعتَ بي! حمَّلتني دَيْنَك وعيالَكَ، ثم جئتَ تريد قتلي.
فقال: أبا وهب، جُعِلْتُ فِدَاكَ..! قد جِئتُكَ من عِنْدِ أَبَرِّ الناس، وأوصل الناس.
لقد رأى عمير بن وهب ابن عمه وصديقه القديم صفوان يهرب من مكة فَرَقَّ له، وأشفق عليه، فأسرع إلى رسول الله
، وقال له: يا رسول الله، سيِّد قومي خرج هاربًا ليقذف نفسه في البحر، وخاف ألاَّ تُؤَمِّنَهُ، فداك أبي وأمي.
فقال
الرسول : «قَدْ أَمَّنْتُهُ»!!
هكذا!!
وتمامًا مثلما
فعل مع قرينه «عكرمة
».
إنها ليست أبدًا مواقف عابرة، إنه -باختصار- منهج حياة..!
قال عمير بن وهب
لصفوان: إن رسول الله قد أمَّنَكَ.
فخاف صفوان، وقال: لا -والله- لا أرجع معك حتى تأتيني بعلامةٍ أعرفها.
فرجع عمير بن وهب إلى
الرسول ، وقد بذل مجهودًا كبيرًا في السعي من البحر الأحمر إلى مكة، وهي مسافة تقرب من ثمانين كيلو مترًا ذهابًا فقط!
قال عمير
لرسول الله
: يا رسول الله، جئتُ صفوانَ هاربًا يريد أن يَقْتُلَ نفسه، فأخبرته بما أَمَّنْتَهُ، فقال: لا أرجع حتى تأتيني بعلامة أعرفها.
فقال
الرسول في منتهى التسامح: «خُذْ عِمَامَتِي إِلَيْهِ»!!
فأخذ عمير العمامة، وذهب إلى صفوان بن أمية، حتى وصل إليه، وأظهر له العمامة وقال له: يا أبا وهب، جئتك من عند خير الناس، وأوصل الناس، وأبرِّ الناس، وأحلم الناس، مجده مجدك، وعِزُّه عزك، ومُلْكُهُ مُلْكُكَ، ابنُ أمِّك وأبيك، أُذكِّرك اللهَ في نفسك.
فقال له صفوان في منتهى الضعف: أخافُ أن أُقتل!
قال: قد دعاك إلى أن تدخل في الإسلام، فإن رضيت وإلا سَيَّرك شهرين!!
ولننظر إلى هذا العرض السخي من رسول الله
، فلو أسلم صفوان لانتهت القضية، وأصبح له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، وإن أراد أن يأخذ شهرين كاملين يفكر فيهما، فهو في أمان!
فرجع صفوان بن أمية مع عمير بن وهب إلى رسول الله
، ودخل الحرم، والرسول
يصلي بالناس صلاة العصر فوقفا معًا، حتى ينتهي
الرسول من الصلاة، فقال صفوان لعمير بن وهب: كم تُصلون في اليوم والليلة؟
قال: خمس صلوات.
قال: يصلي بهم محمد؟
قال: نعم.
فلما سلم
الرسول وانتهى من صلاته، صاح صفوان يخاطب النبي
من بعيد: يا محمد، إن عمير بن وهب جاءني بعمامتك، وزعم أنك دعوتني إلى القدوم عليك، فإن رضيتُ أمرًا وإلا سَيَّرْتَنِي شهرين.
فقال
في رفق وسهولة: «انْزِلْ أَبَا وَهْبٍ». (وانظر إليه يُكَنِّيهِ ويَتَلَطَّفُ إليه!).
فقال صفوان في خوف: لا -والله- حتى تُبيِّن لي!!
فقال
الرسول : «بَلْ تَسِيرُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ»!
وبالفعل أطلق
الرسول صفوان بن أمية أربعة أشهر كاملة ليفكر..!!
ثم كان خروج رسول الله
إلى حنين، واحتاج إلى الدروع والسلاح كما مر بنا، وكان صفوان بن أمية من تجار السلاح المعروفين في مكة، ومع ذلك لم يأخذ رسول الله
السلاح منه عنوةً، إنما استقرضه بالثمن! ولم يستغل ضعفه، وقِلَّةَ أعوانه، وإسلام مكة كلها تقريبًا إلا هو.
وخرج صفوان مع المسلمين إلى حنين ليرعى أسلحته، وانكسر المسلمون في أول الأمر، ثم أُتبع الانكسار بانتصار مهيب، وجمع المسلمون غنائم لم يسمع بها العرب قبل ذلك، وقام رسول الله
بما لم يقم به قائد في تاريخ البشرية؛ إذ وقف يقسِّم الغنائم بكاملها -على كثرتها!!- على الجنود دون أن يحتفظ لنفسه بشيء!
وكان
يُعطي المؤلفة قلوبهم من المسلمين مائةً مائةً من الإبل والشياه، وحقَّق المؤلفة قلوبهم من الثروة ما أذهل عقولهم، حتى تنازل السادة عن كبريائهم وعِزَّتهم، وذهبوا يطلبون العطاء المرة تلو المرة! والرسول
لا يردُّ سائلاً، ولا يمنع طالبًا.
ومن بعيد يقف صفوان بن أمية متحسِّرًا وهو يشاهد توزيع الغنائم، فهو ما زال من المشركين، وليس له إلا إيجار السلاح.. ولكنْ حَدَثَ في لحظةٍ ما أذهل صفوان، وأذهل المشاهدين للموقف والسامعين عنه، وسيظلُّ مذهلاً للناس إلى يوم القيامة!!
لقد نادى رسولُ الله
صفوانَ بن أمية، وأعطاه مائة من الإبل، كما أعطى الزعماء المسلمين من أهل مكة!!
أيتوقع إنسان -أيًّا كان كرمه أو سخاؤه- أن يحدث منه مثل هذا..؟!!
ولم تكن ذلك نهاية الموقف!
لقد وجد رسول الله
أن صفوان ما زال واقفًا، ينظر إلى شِعْبٍ من شِعاب حُنين، قد مُلِئ إبلاً وشياه، وقد بَدَتْ
عليه علامات الانبهار والتعجُّب من كثرة الأنعام، فقال له
في رِقَّة: «أَبَا وَهْبٍ، يُعْجِبُكَ هَذَا الشِّعْبُ؟».
قال صفوان في صراحة شديدة: نَعَمْ.
إنه لا يستطيع أن يترفع وينكر.. إن المنظر باهر حقًّا!!
قال
الرسول في بساطة وكأنه يتنازل عن جمل أو جملين: «هُوَ لَكَ وَمَا فِيهِ»!!
أذهلت المفاجأة صفوان، ووضحت أمام عينيه الحقيقة التي ظلت غائبة عنه سنين طويلة، ولم يجد صفوان بن أمية نفسه إلا قائلاً: ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي، أشهد أنه لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله!!
وأسلم صفوان
في مكانه!!
يقول صفوان بن أمية
: والله لقد أعطاني رسول الله
، وأعطاني، وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى صار أحبَّ الناس إليَّ!!
أيُّ خير أصاب صفوان
..!!
أيُّ خير تحقق لقبيلة بني جُمَح عندما أسلم زعيمها..!!
وأيُّ خير تحقق لمكة..!!
وأيُّ خير تحقق للمسلمين، وقد أضيفت إليهم قوة الزعيم المكي المشهور صفوان بن أمية
، والذي حسن إسلامه بعد ذلك، وصار من المجاهدين في سبيل الله؟!
إن كل هذا الخير قد تحقق بوادٍ من الإبل والشياه!
وما هي قيمة هذه الإبل والشياه؟!
إنها إمَّا أن تؤكل أو تموت..
إن الدنيا بكاملها -وليست الإبل والشياه فقط- تفنى وتزول، ولكن الذي لا يزول هو نعيم الجنة، وكم من البشر سيخلد في نعيم الجنة؛ لأنه أُعطى ذات يوم مجموعة من الإبل والشياه!
أليس هذا فهمًا راقيًا من رسول الله
لحقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة وحقيقة الغنائم وحقيقة البشر؟!
أليس هذا تقديرًا صائبًا من
الرسول الحكيم
في هذه المقارنة السريعة التي عقدها؟!
الأغنام في مقابل الإسلام..!!
الدنيا في مقابل الآخرة..!!
لقد وجد
الرسول أن الأغنام -مهما كثرت- ثمن زهيد جدًّا للإسلام، فهانت عليه، بل هانت
عليه الدنيا بكاملها، فأعطاها دون تردُّد، فالدنيا عنده لا تعدل جناح بعوضة، والدنيا عنده قطرة في يَمٍّ واسع، والدنيا عنده أهون من جَدْيٍ أَسَكَّ(مَيِّتٍ)، ولم يكن هذا كلامًا نظريًّا فلسفيًّا، وإنما كان حقيقة رآها كل المعاصرين له
بعيونهم، كان واقعًا في حياته، وحياة الصحابة
، وحياة من عاملهم من المسلمين وغير المسلمين.
ولم يتبقَّ في يده شيء لنفسه
!!
لم يتبق ما يُعَوِّضُ به فقر السنين، وانقضاء العمر، وقد بلغ الستين بل تجاوزها!
لم يحتفظ بشيء، ورأى الناس منه ما جعل عقولهم تطيش، وأفئدتهم تضطرب، فانطلق الأعرابُ يزدحمون
عليه يطلبون المال والأنعام لأنفسهم قبل أن تنفد، حتى اضطروه
-وهو الزعيم المنتصر والقائد الأعلى- أن يلجأ إلى شجرة، وانتزع الأعراب رداءه، فقال في أدبٍ ورفقٍ، ولينٍ يليق به كنبيٍّ، ويجدر به كمُعَلِّمٍ:
«أَيُّهَا النَّاسُ، رُدُّوا عَلَيَّ رِدَائِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ لَكُمْ عِنْدِي عَدَدَ شَجَرِ تِهَامَةَ نَعَمًا لَقَسَّمْتُهُ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ لاَ تَجِدُونِي بَخِيلاً، وَلاَ جَبَانًا، وَلاَ كَذَّابًا».
وصدق
.. فما كان بخيلاً، ولا جبانًا، ولا كذابًا.
وكما حدث مع الزعماء السابقين، فقد مرَّ سهيل بن عمرو
بالتجربة نفسها.
slhpm hgvs,g ugdi hgwghm ,hgsghl hgpgrm hgshfum hgvs,g hgwghm hgshfum slhpm ugdi