الخوف من الفتن طابع في النفوس قديم؛ فقد استعاذ رسول
الله صلى
الله عليه وسلم من الفتن ما ظهر منها وما بطن[1]؛ ومعنى الاستعاذة منها اللجوء إلى
الله ليحمي الإنسان من الفتن مع تحصيل الجهد البشري في الوقاية منها ومن شرورها، وكان حذيفة بن اليمان رضي
الله عنه يسأل رسول
الله صلى
الله عليه وسلم عن الشر مخافة أن يلحقه؛ بينما كان الناس يسألون عن الخير[2]، والفتنة باب فسيح للشر يدخل منه الشيطان ليثير القتال بين الإخوان، ويشعل الدمار بين الأصحاب، ولا يترك أمة دخل عليها بالفتنة إلا نسيجًا ممزقًا لا نفع فيه ولا بقاء له. والخوف من الفتنة ليس خوفًا على أفراد، وليس خوفًا على طائفة بعينها؛ ولكنه خوف من الهدم الذي لا يبني، والجرح الذي يتسع ولا يُشفى؛ ومن ثَمَّ كان خوف أبي بكر رضي
الله عنه ليلة الهجرة ليس على ذاته وحدها ولا على الرسول فقط، وإنما خوف على الأمة كلها أن يتبدَّد شملها، ويظهر شعثها إذا ما أصيب الرسول صلى
الله عليه وسلم، ولا يصلح بنيان تهدمت جوانبه وتنتقض أركانه:
مَتَّى يَبْلُغُ الْبُنْيَانُ يَوْمًا تَمَامَــهُ *** إِذْ كُنْتَ تَبْنِيهِ وَغَيْرُكَ يَهْــدِمُ
وقال آخر:
ولو ألف بانٍ خلفهم هادم كفى *** فكيف ببانٍ خلفه ألف هادم
وكان عمر رضي
الله عنه وهو مَنْ هو في قوَّته يخاف الفتنة، ويسأل عنها حذيفة رضي
الله عنه فيقول له: لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا بَأْسٌ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا. قال عمر: أَيُكْسَرُ البَابُ أَمْ يُفْتَحُ؟ قال: بَلْ يُكْسَرُ. قال عمر: إذن لاَ يُغْلَقَ أَبَدًا[3].
وخوف عمر ليس على نفسه؛ ولكن على الأُمَّة لأنه شهيد، فقد قال رسول
الله صلى
الله عليه وسلم وهو على جبل أحد مع أبي بكر وعمر وعثمان: "
اثْبُتْ أُحُدُ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ، وَصِدِّيقٌ، وَشَهِيدَانِ"[4].
وما زلنا نحن نخاف على أُمَّتنا من الفتنة التي قد تُصيبها إن لم تُحَصِّن نفسها بالدواء الشافي {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101].
هذا هو الدواء وليس غيره بمفيد في الوقاية من الفتن الماحقة؛ التي تقضي على الأخضر واليابس، وتجعل بأس الأُمَّة بينها شديدًا، وعلى أعدائها هيِّنًا لينًا، والفتن تطلُّ علينا من خلال عديد من الأشكال في الأجهزة التلفازية التي تدخل بيوتنا فيراها الكبير والصغير، ويتأثَّر بها الأمي والقارئ، ويسمع صوتها كل إنسان في إلحاح دائم وبثٍّ متَّصل؛ بحيث تتشبَّع العقول بما تسمع وبما ترى مما يُقَدَّم لها بأسلوب فني خلاب؛ ليستلب منها أجمل ما تملك، يستلب منها وقتها الذي هو الحياة، ويستلب منها التفكير الذي هو ميزان الفلاح، ويُرسل عليها جيوش الشهوات المتعدِّدة بغير حياء لتحطم بُنَيَّاتها، وتهلك أبناءها.
والفتن تطل علينا من خلال العديد من المطبوعات التي تصل إلى بلادنا الإسلامية لتشغل الشباب وتصدهم عن ذكر
الله وعن الصلاة، وتثير بينهم البلبلة الفكرية، وتغرس فيهم روح التشكيك في أصالتهم وعاداتهم وتقاليدهم. وينبغي ألا نتساهل اليوم في هذه الأمور وأمثالها؛ التي تطل منها الفتنة برأسها؛ بل ينبغي أن نقاومها، وأن نقف في وجهها، ولا سلاح لنا في ذلك غير سلاح الإيمان القوي؛ الذي جعل المسلمين الأولين يُريقون الخمور في طرقات المدينة حين نزلت آية تحريم الخمر، وجعل مرثد بن أبي مرثد الغنوي يقول لامرأة جاهلية كان يبيت عندها قبل إسلامه، فلما رأته بعد إسلامه دعته للمبيت، فقال لها: يا عناق إن
الله حرَّم هذا[5].
وجعل بعض المسلمين يُلقون السلاح ويبتعدون عن جوِّ الفتنة مخافة أن يبوء بدم امرئ مسلم فيكون من الخاسرين. لا سلاح نشهره في وجه الفتنة غير كتاب
الله وسنة رسوله وهدي الصالحين من السلف، نقتدي بفعالهم ونسير على هديهم، ونقول ما عملنا القرآن الكريم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].
وخير لنا ولأبنائنا ولأُمَّتنا أن نجعل الدين قوام حياتنا، وأن نحصِّن أنفسنا بطاعة
الله وتقواه، ونحن ندرك قول الله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4].