كثيرة هي تلك القيم الحضارية التي ظهرت في غزوة بدر كأحداث رئيسية في هذه المعركة.. تلك المعركة التي لم تكن في حسبان جيش المسلمين الذين خرجوا لمطاردة صفقة تجارية لقريش قادمة من الشام يقودها أبو سفيان بن حرب، كمحاولة جديدة لاسترداد بعض أموال المسلمين التي صادرتها قريش!
ولكن قضى الله أمرًا غير الذي أراده المسلمون، فقد استطاع أبو سفيان أن يفلت بالقافلة، بعدما أرسل إلى مكة من يخبر قريشًا بالخبر غير الذي أراده المسلمون، فغضب المشركون في مكة، فتجهزوا سراعًا، وخرجوا في ألف مقاتل.. أما أبو سفيان فقد أرسل إلى قيادات مكة مَن يخبرهم بأن القافلة قد نجت، وأنه لا داعي للقتال، وحينئذٍ رفض أبو جهل إلا المواجهة العسكرية.
وفيما يلي نقف -سريعًا- على بعض
القيم الحضارية المستفادة من
غزوة بدر:
لا نستعين بمشرك على مشرك:
لما خرج رسول الله
إلى بدر، أدركه خبيب بن إساف، وكان ذا بأس ونجدة ولم يكن أسلم، ولكنه خرج منجدًا لقومه من الخزرج طالبًا للغنيمة، وكانت تُذكر منه جرأة وشجاعة، ففرح أصحاب النبي
حين رأوه، فلما أدركه قال: جئت لأتبعك وأصيب معك. فقال له النبي
: "أتؤمن بالله ورسوله؟" قال: لا. قال: "فارجع، فلن نستعين بمشرك". فلم يزل خبيب يلح على النبي، والنبي يرفض، حتى أسلم خبيب، فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ
بِذَلِكَ، وَقَالَ: "انطلق"[1].
وعلى النقيض من هذا الموقف، جاء أبو قَيْسُ بْنُ مُحَرّثٍ، يطلب القتال مع المسلمين، وقد كان مشركًا، فلما رفض الإسلام، رده رَسُولُ اللَّهِ
وَرَجَعَ الرجل إلى المدينة، وأسلم بعد ذلك[2].
نرى القائد الإسلامي في هذا الموقف، يرفض أشد الرفض أن يستعين بمشرك على قتال مشرك، وأقل ما نُعَنون به هذا الموقف الحضاري المتكرر في السيرة الغراء، هو عنوان الحرب الشريفة النظيفة، التي تكون من أجل العقائد والمثل، لا من أجل القهر والظفر بالمغانم.. ففي هذا الموقف دلالة على أن الحرب في الإسلام لا تكون إلا من أجل العقيدة، فلا يصح إذن -إذا كنا نقاتل من أجل العقيدة- أن نستعين بأعداء هذه العقيدة في الحرب.
وتخيَّل معي شعور الجيش المشرك، عندما تأتيه أنباء رفض القائد الإسلامي الاستعانة عليهم بغير المسلمين.. بيد أن الحروب الجاهلية في الماضي والحاضر يستعين فيها الخصم على خصمه بشتى الملل والنحل، الصالحة والطالحة، المهم أن يظفر الخصم بخصمه، فينهب ويسلب ويغدر.. دون الالتفات إلى قيم أو مُثُل!
أما القيادة الإسلامية الكريمة فترسخ هذا الأصل الأصيل في أخلاقيات الحروب، بحيث تُظهر عقيدتها السَّمْحة، وتستميل نفوس الجنود الذين جاءوا لحرب المسلمين، ناهيك عن البعد الإعلامي الذي يسحب القائد الإسلامي بساطه من تحت خصمه، الذي جاء بطرًا ورئاء الناس، فيظهر الخصم المشرك أمام الرأي العام العالمي والإقليمي بمظهر المتعجرف.. أما الجيش الإسلامي فيظهر بمظهر جيش الخير، الذي يحترم العقيدة إلى الدرجة التي يرفض فيها أن يستعين في قتاله بمن يخالف عقيدته.
مشاركة القائد جنوده في الصعاب:
عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: كنا يوم بدر، كل ثلاثة على بعير، فكان أبو لبابة وعلي بن أبي طالب زميلي رسول الله
، قال: فكان إذا جاءت عُقْبَة رسول الله
قالا: نحن نمشي عنك. فقال: "ما أنتما بأقوى مني، وما أنا بأغنى عن الأجر منكما"[3].
فالقائد الصالح هو من يشارك جنوده الصعاب، ويحفزهم على القليل والكثير من الصالحات، ليكون قدوة طيبة أخلاقية لجنوده في المنشط والمكره، وليس القائد بالذي يتخلف عن جيشه رهبًا من الموقف، أو يتلذذ بصنوف النعيم الدنيوي وجنده يكابد الحر والقرّ.
الشورى:
ففي وداي ذَفِرَانَ بلغ النبي نجاة القافلة، وتأكد من حتمية المواجهة العسكرية مع العدو.. فاستشار الناس ووضعهم أمام الوضع الراهن، إما ملاقاة العدو، وإما الهروب إلى المدينة.. فقال لجنوده: "أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيّهَا النّاسُ"، وما زال يكررها عليهم، فيقوم الواحد تلو الآخر ويدلو بدلوه، فقام أبو بكر فقال وأحسن. ثم قام عمر فقال وأحسن. ثم قام الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فقال وأحسن.. حتى قام القيادي الأنصاري البارز سعد بن معاذ، فحسم نتيجة الشورى لصالح الحل العسكري.
فهذا هو المجتمع الإسلامي، الذي يعتبر الشورى ركنًا من أركانه، وأصلاً في بنيانه.. في أيام كانت أوربا تحت حكم وراثي كنسيّ مستبد، يقيد الجنود بالسلاسل في المعارك حتى لا يفروا. لا قيمة عندهم لرأي، ولا وزن -في تصوراتهم- لفكر!
النهي عن استجلاب المعلومات بالعنف:
وهذا مظهر آخر من المظاهر
الحضارية في السيرة، فقد حذر رسولنا
من انتزاع المعلومات بالقوة من الناس؛ ففي ليلة معركة بدر بَعَثَ النبي
عَلِيَّ بْنَ أَبِي طالب فِي مفرزة إلى ماء بدر في مهمة استخباراتية لجمع المعلومات، فوجدوا غلامين يستقيان للمشركين، فأَتَوْا بِهِمَا فَسَأَلُوهُمَا، وَرَسُولُ اللّهِ
يُصَلِّي، فقالا: نَحْنُ سُقَاةُ قُرَيْشٍ. فطفق الصحابة يضربوهما، حتى اضطر الغلامان لتغيير أقوالهما. فلما أتم رسول الله صلاته، قال لهما مستنكرًا: "والذي نفسي بيده، إنكم لتضربونهما إذا صدقا وتتركونهما إذا كذبا.. إذا صَدَقَاكُمْ ضَرَبْتُمُوهُمَا، وَإِذَا كَذَبَاكُمْ تَرَكْتُمُوهُمَا! صَدَقَا، وَاَللَّهِ إنّهُمَا لِقُرَيْشِ"[4].
هكذا كانت معاملة القيادة الإسلامية لمن وقع في قبضة المخابرات الإسلامية للاستجواب، فنهى القائد عن تعذيب المستجوَب، أو انتزاع المعلومات منه بالقوة، فسَبَقَ اتفاقية جنيف الثالثة لعام 1949م التي تحظر إجبار الأسير على الإدلاء بمعلومات سوى معلومات تتيح التعرف عليه مثل اسمه وتاريخ ميلاده ورتبته العسكرية، وجرَّم رسول الله كل أعمال التعذيب أو الإيذاء أو الضغط النفسي والجسدي التي تمارس على الأسير ليفصح عن معلومات حربية.
وثمة تقدم إسلامي على هذه الاتفاقات الأخيرة، فرسول الله قد طبق هذه التعاليم التي تحترم حقوق الأسير، بيد أن دول الغرب في العصر الحديث لم تُعِرْ اهتمامًا لهذه الاتفاقات ولم تحترمها، والدليل على ذلك ما يفعله الجنود الأمريكيون في الشعب العراقي والأفغاني.. وما يفعله الصهاينة في الشعب الفلسطيني.
احترام آراء الجنود:
لما تحرك رسول الله إلى موقع المعركة، نزل بالجيش عند أدنى بئر من آبار بدر من الجيش الإسلامي، وهنا قام الْحُبَاب بن الْمُنْذِرِ، وأشار على النبي بموقع آخر أفضل من هذا الموقع، وهو عند أقرب ماء من العدو، فقال له رسول الله
-مشجعًا-: "لَقَدْ أَشَرْت بِالرّأْيِ"[5]. وبادر النبي بتنفيذ ما أشار به الحباب، ولم يستبد برأيه برغم أنه القائد الأعلى، وعليه ينزل الوحي من السماء!
إن هذه المواقف لتبين كيف تكون العلاقة بين القائد وجنوده، إنها علاقة تحترم الآراء الناضجة وتشجع الأفكار الصاعدة.
العدل بين القائد والجندي:
قلما نرى في تاريخ الحروب صورة تعبر عن العدل بين القادة والجنود، فالتاريخ الإنساني حافل بصور استبداد القادة العسكريين وظلمهم للجنود.. أما محمد
فنراه في أرض المعركة يقف أمام جندي من جنوده لَيَقتص الجندي منه.. أما الجندي فهو ِسَوَاد بن غَزِيّة، لما اسْتَنْتِل من الصف، غمزه النبي غمزة خفيفة في بَطْنِهِ -بالسهم الذي لا نصل له- وقال: "استوِ يا سواد". قال: يا رسول الله، أوجعتني! وقد بعثك الله بالحق والعدل؛ فَأَقِدْنِي. فكشف رسول الله
عَنْ بَطْنِهِ، وَقَالَ: "اسْتَقِدْ". فَاعْتَنَقَهُ فَقَبَّلَ بَطْنَهُ! فقال النبي
: "مَا حَمَلَك عَلَى هَذَا يَا سواد؟" قال: حضر ما ترى، فَأَرَدْتُ أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك! فدعا له رسول الله بخير[6].
الحوار قبل الصدام:
أراد النبي أن يستنفد كل وسائل الصلح والسلام قبل أن يخوض المعركة، فما أُرسل إلا رحمة للعالمين، فأراد أن يبادر بمبادرة للسلام ليرجع الجيشان إلى ديارهما، فتُحقن الدماء، أو ليقيم الحجة على المشركين، فلما نَزَلَ الجيش الوثني أرض بدر أَرْسَلَ رسولُ الله
عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ إلى قُرَيْشٍ، وقد كان سفيرهم في الجاهلية، فنصحهم عمر بالرجوع إلى ديارهم حقنًا للدماء.. فتلقفها حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ أحد عقلاء المشركين، فقال: قد عَرَضَ نصْفًا، فَاقْبَلُوهُ، والله لا تُنْصَرُونَ عليه بعد ما عرض من النّصْفِ. فقال أبو جهل: والله لا نرجع بعد أن أمكننا الله منهم[7].
فانظر حرص الرسول على حقن الدماء وحرص أبي جهل على سفك الدماء، وانظر إلى هذه القيمة
الحضارية التي يسجلها نبي الرحمة في هذه المعركة: الحوار قبل الصدام.
الوفاء مع المشركين:
فقد قال النَّبِي في أُسَارَى بدر: "لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلاءِ النَّتْنَى، لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ"[8]!!
وذلك لأن المطعم قد أدخل النبي
في جواره فور رجوعه من الطائف إلى مكة، وفي الوقت الذي تخلى فيه الناس عن حماية النبي خوفًا من بطش أبي جهل، قال المطعم: يا معشر قريش، إني قد أجرت محمدًا فلا يهجه أحد منكم.. وقد حفظ النبي
للمطعم هذا الصنيع وهذه الشهامة.
وقال النبي
في هذا اليوم أيضًا: "مَنْ لَقِيَ أَبَا الْبَخْتَرِيّ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ فَلا يَقْتُلْهُ، وَمَنْ لَقِيَ الْعَبّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، فَلا يَقْتُلْهُ؛ فَإِنّهُ إنما أُخْرِجَ مُسْتَكْرَهًا"[9]. وقد كان العباس في مكة بمنزلة قلم المخابرات للدولة الإسلامية، وقد كان مسلمًا يكتم إيمانه.. أما أبو الْبَخْتَرِي فقد كان أكف المشركين عن المسلمين، بل ساند المسلمين في محنتهم أيام اعتقالهم في الشِّعب، وكان ممن سعى في نقض صحيفة المقاطعة الظالمة، ومن ثَمَّ كانت له يدٌ على المسلمين، فأرد النبي يوم بدر أن يكرمه.
فالقيادة الإسلامية تحفظ الجميل لأصحاب الشهامة، وإن كانوا من فسطاط المشركين.
حفظ العهود:
قال حذيفة بن اليمان: ما منعنا أن نشهد بدرًا إلا أني وأبي أقبلنا نريد رسول الله
، فأخذنا كفار قريش فقالوا: إنكم تريدون محمدًا. فقلنا: ما نريده إنما نريد المدينة. فأخذوا علينا عهد الله وميثاقه لتصيرن إلى المدينة ولا تقاتلوا مع محمد
، فلما جاوزناهم أتينا رسول الله
فذكرنا له ما قالوا وما قلنا لهم فيما ترى؟ قال: "نستعين الله عليهم ونفي بعهدهم"[10]!!
وهذا الموقف من رسول الله يعدُّ من مفاخر أخلاقيات الحروب في تاريخ الإنسانية، فلم ير المؤرخون في تاريخ الحروب قاطبة موقفًا يُنَاظر هذا الموقف الباهر، ذلك الموقف الذي نرى فيه القيادة الإسلامية تحترم العهود والعقود لأقصى درجة، حتى العهود التي أخذها المشركون على ضعفاء المسلمين أيام الاضطهاد، برغم ما يعلو هذه العقود من شبه الإكراه.
إكرام الأسرى:
بعدما أكرم الله الجيش الإسلامي بالنصر، واستوثق المسلمون من الأسرى، فرَّقهم النبي
بين أصحابه وقال: "استوصوا بهم خيرًا"[11].
وهذا أبو عزيز بن عمير -أخو مصعب- يحدثنا عما رأى حين أسره المسلمون. قال: كنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قَدّمُوا غداءهم وعشاءهم خَصّونِي بالخبز وأكلوا التمر؛ لوصية رسول الله
إيّاهُمْ بِنَا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نَفَحَنِي بِهَا. فَأَسْتَحْيِي فَأَرُدّهَا على أحدهم، فَيَرُدّهَا عَلَيَّ ما يَمَسّهَا[12].
وصدق فيهم قول الله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8].
كان هذا الخُلق الكريم الذي غرسه المعلم الأكبر
في جنده، قد كان له بالغ الأثر في إسراع مجموعة من أكابر الأسرى وأشرافهم إلى الإسلام، فأسلم أبو عزيز عقب معركة بدر. وعاد الأسرى إلى مكة يتحدثون عن أخلاق محمد الرفيعة وسماحته وكرمه.
النهي عن المثلة بالأسير:
لما أُسر سُهيل بن عمرو أحد صناديد مكة فيمن أُسر، قال عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ لِرَسُولِ اللّهِ
: يَا رَسُولَ اللّهِ، دَعْنِي أَنْزِعْ ثَنِيّتَيْ سهيل بن عمرو، وَيَدْلَعُ لِسَانَهُ فلا يقوم عليك خطيبًا في موطن أبدًا! وقد كان خطيبًا مفوهًا، يهجو الإسلام. فقَالَ رَسُولُ اللّهِ
-في سماحةٍ وسمو-: "لا أُمَثِّلُ بِهِ، فَيُمَثِّلُ اللَّهُ بِي وَإِنْ كُنْتُ نَبِيًّا"[13]! فلم يمثل به كما يمثل الهمجيون في قتلى وأسرى الجيش المهزوم، وسنَّ بذلك سنة حسنة في الحروب، ويبقى له الفضل والسبق في تحريم إهانة الأسرى أو إيذائهم.
هكذا كان نبي الرحمة في ميدان القتال، لا يستعين بمشرك على مشرك، يشارك جنوده، ويستشيرهم، ويعدل بينهم، ويحترم آراءهم، ويحاور أعداءه، ويكون وفيًّا كريمًا لأهل الفضل منهم، ويكرم الأسرى، وينهى عن إيذائهم.