الجواب :
الحمد لله
أولا:
الإلهام عرفه أهل العلم بتعريفات متقاربة.
قال ابن الأثير رحمه الله: (أن يلقي الله في
النفس أمراً يبعث العبد على الفعل أو الترك) انتهى من "جامع الأصول" (4/213).
وقال زكريا الأنصاري رحمه الله: (الإلهام إلقاء معنى في القلب يطمئن له الصدر يخص الله به بعض أصفيائه، وليس بحجة من غير معصوم) انتهى من "الحدود الأنيقة" ص(68).
ثانيا:
الخواطر التي ترد على الإنسان، قد
تكون من
الإلهام الذي يلقيه الله في روع العبد ، وقد
تكون من الشيطان، كما
تكون من
حديث النفس.
وقد روى البخاري (3689) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنْ الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ ، فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَإِنَّهُ عُمَرُ).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وهذا المقام الذي أشار إليه هو
الإلهام ، وهو من جملة أصناف الوحي إلى الأنبياء ، ولكن لم أر في شيء من الأحاديث وصفه بما وصفت به الرؤيا : أنه جزء من النبوة.
وقد قيل في الفرق بينهما: إن المنام يرجع إلى قواعد مقررة ، وله تأويلات مختلفة ، ويقع لكل أحد، بخلاف
الإلهام ، فإنه لا يقع إلا للخواص، ولا يرجع إلى قاعدة يميز بها بينه وبين لمة الشيطان. وتُعقّب بأن أهل المعرفة بذلك ذكروا أن الخاطر الذي يكون من الحق يستقر ولا يضطرب، والذي يكون من
الشيطان يضطرب ولا يستقر، فهذا إن ثبت كان فارقا واضحا.
ومع ذلك فقد صرح الأئمة بأن الاحكام الشرعية لا تثبت بذلك.
قال أبو المظفر بن السمعاني في القواطع بعد أن حكى عن أبي زيد الدبوسي من أئمة الحنفية أن
الإلهام ما حرك القلب لعلم يدعو إلى العمل به ، من غير استدلال: والذي عليه الجمهور أنه لا يجوز العمل به إلا عند فقد الحجج كلها في باب المباح. وعن بعض المبتدعة أنه حجة واحتج بقوله تعالى: (فألهمها فجورها وتقواها) وبقوله: (وأوحى ربك إلى النحل) أي ألهمها حتى عرفت مصالحها، فيؤخذ منه مثل ذلك للآدمي بطريق الأولى، وذكر فيه ظواهر أخرى، ومنه الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا فراسة المؤمن)، وقوله لوابصة: (ما حاك في صدرك فدعه وإن أفتوك) فجعل شهادة قلبه حجة مقدمة على الفتوى، وقوله: (قد كان في الأمم محدثون) فثبت بهذا أن
الإلهام حق وأنه وحي باطن، وإنما حُرمه العاصي لاستيلاء وحي
الشيطان عليه.
قال: وحجة أهل السنة الآيات الدالة على اعتبار الحجة والحث على التفكر في الآيات والاعتبار والنظر في الأدلة وذم الأماني والهواجس والظنون، وهي كثيرة مشهورة، وبأن الخاطر قد يكون من الله ، وقد يكون من
الشيطان ، وقد يكون من النفس، وكل شيء احتمل أن لا يكون حقا لم يوصف بأنه حق.
قال: والجواب عن قوله: (فألهمها فجورها وتقواها) أن معناه عرفها طريق العلم وهو الحجج. وأما الوحي إلى النحل فنظيره في الآدمي فيما يتعلق بالصنائع وما فيه صلاح المعاش. وأما الفراسة فنسلمها لكن لا نجعل شهادة القلب حجة؛ لأنا لا نتحقق كونها من الله أو من غيره" . انتهى ملخصا.
وقال ابن السمعاني: (وإنكار
الإلهام مردود، ويجوز أن يفعل الله بعبده ما يكرمه به، ولكن التمييز بين الحق والباطل في ذلك: أن كل ما استقام على الشريعة المحمدية، ولم يكن في الكتاب والسنة ما يرده، فهو مقبول، وإلا فمردود يقع من
حديث النفس ووسوسة الشيطان.
ثم قال: ونحن لا ننكر أن الله يكرم عبده بزيادة نور منه يزداد به نظره ويقوي به رأيه، وإنما ننكر أن يرجع إلى قلبه بقول لا يعرف أصله، ولا نزعم أنه حجة شرعية، وإنما هو نور يختص الله به من يشاء من عباده، فإن وافق الشرع كان الشرع هو الحجة ) انتهى من فتح الباري (12/387).
فالخواطر قد
تكون إلهاما، وقد
تكون من لمة الشيطان، أو من
حديث النفس.
قال ابن مسعود رضي الله عنه : ( إِنَّ لِلْمَلِكِ لَمَّةً، وَإِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً، فَلَمَّةُ الْمَلِكِ إِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَهَا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ إِيعَادٌ بِالشَّرِّ، وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَهَا فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ ) رواه أبو داود في الزهد (164) ورواه الترمذي (2899) مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي سنده مقال .
والإلهام نوع من الكرامة.
قال الخطابي رحمه الله: (فإن كان في أُمتي منهم فإنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ,المُحدَّث الملهم يُلقى الشيءُ في روعه , فكأنه قد حُدِّث به , يظن فيصيب، ويخطر الشيء بباله فيكون كذلك. وهو منزلة جليلة من منازل الأولياء، ومرتبة عظيمة من مراتب الأصفياء) انتهى من "أعلام الحديث" (3/1571).
وقال المناوي رحمه الله: ((أناس محدَّثون) قال القرطبي : الرواية بفتح الدال اسم مفعول ، جمع محدث بالفتح ، أي ملهم ، أو صادق الظن ، وهو من أُلقي في نفسه شيء على وجه
الإلهام والمكاشفة من الملأ الأعلى ، أو من يجري الصواب على لسانه بلا قصد ، أو تكلمه الملائكة بلا نبوة ، أو من إذا رأى رأيا ، أو ظن ظنا : أصاب ؛ كأنه حُدِّث به ، وألقى في روعه من عالم الملكوت ، فيظهر على نحو ما وقع له .
وهذه كرامة يكرم الله بها من شاء من صالح عباده ، وهذه منزلة جليلة من منازل الأولياء) انتهى من "فيض القدير" (4/664) .
ثالثا:
قد تبين بما سبق أن
الإلهام شيء يلقى في القلب، بلا مقدمات، ولا تفكير أو اجتهاد، كأن يلقى في نفس الإنسان أن فلانا يموت هذه الساعة، أو أن الجيش سينتصر رغم قلة الأسباب، ونحو ذلك.
وأما تذكّر إجابة سؤال في الامتحان، فليس إلهاما، بل هو من التفكر ، واستعادة ما في النفس، إلا أن يلقى في نفسه جواب لم يكن قرأه ولا خطر بباله من قبل .
وهذا الباب شأنه شأن الرزق من المال والصحة والولد ، والتجارة ، ونحو ذلك من الأرزاق : يؤتيه الله من يشاء ، بمقتضى ربوبيته العامة لخلقه ؛ فقد يرزق الله طالبا أن ينجح في الامتحان ، وهو فاسق عاص ، ويمنع آخر ، وهو مؤمن تقي .
وقد يرزق الله الطالب الجواب ، بمقتضى ما بذله من الأسباب ، فعيطيه وفق ذلك ، كما هو الشأن العام والغالب من أحوال الناس .
وقد يمنعه ، وقد ذاكر وبذل واجتهد ، محنة منه وبلاء ، يبتليه به .
وقد يرزقه جواب سؤال ، لم يجتهد في معرفته ، ونحو ذلك .
وقد قال الله تعالى : (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ) الإسراء/18-21
وينظر للفائدة جواب السؤال رقم : (223510) و (12778) .
والله أعلم .