آفة الكثير من البشر هي في إعراضهم وغفلتهم عن مصيرهم المحتوم، فهم سيموتون، وسيبعثون ليحاسبوا، ومع ذلك هم غافلون معرضون!
إن الأيام واللحظات تأخذ منهم وتنقصهم، وتقرِّبهم من آجالهم، وهم لا يشعرون: ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنبياء: 1].
إن الموت مصيبة كبرى، وأكبر منه الغفلة عنه، وتلك المصيبة الأكبر! وكثير من البشر لا يطيقون سماع القرآن، ويضيقون بسماع الموعظة أو التذكير بالله، وهم في غالب أحوالهم لاهون لاعبون، تمر عليهم ساعات عمرهم وهم في لهو ولعب، فلا طائل من وراء سعيهم، فأعمالهم هباء، وأهدافهم في الحياة سراب، بل لا هدف لهم.
إن الفرض الغائب والقضية الخطيرة في هذه الحياة التي تغافل عنها كثير من الناس - هي قضية التوحيد؛ ولن ينجو من عذاب القبر، ولا من أهوال يوم القيامة، إلا الموحدون، ولن يدخل الجنة إلا أهل التوحيد، ولن يقبل الله تعالى من أحدٍ صلاة ولا عملًا إلا بالتوحيد، وهو الإيمان بالله الواحد الذي له الخلق وله الملك وله التصريف؛ فلا إله يدير ويدبر معه شؤون الكون؛ لأنه لو كان معه إله آخر، لحدث التضارب والاختلاف والفوضى، وحيث إنه لا تضارب ولا اختلاف، ولا فوضى في الكون؛ إذًا فهو إله واحد لا غير، وإذا ثبت ذلك فلا إله معه يحيي ويميت، ويبدأ الخلق ثم يعيده إلا الإله الواحد؛ قال تعالى في السورة الكريمة: ﴿ أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ ﴾ [الأنبياء: 21]؛ أي: هل هناك غير الله يملِك النشور وبعث الناس بعد مماتهم؟ هل يملك أو يستطيع أحد غير الله إحياء الموتى؟ ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 22، 23].
وبما أن نظام الكون لم يتعطل ولم يفسد، فهو يسير بنظام وإحكام؛ إذًا فلا إله إلا هو، ولا معبود بحق سواه.
إن الإله الذي نعبده والمستحق وحده للعبادة، إله واحد لا ولد له، والكل غيره مخلوق مقهور مربوب مملوك: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ﴾ [الأنبياء: 26]، ومن ادعى من هؤلاء المخلوقين أنه إله من دون الله، فيا ويله، ويا لسوء حسابه وسواد مآله: ﴿ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 29].
وضرب الله أمثلة في هذه السورة لبعض أنبيائه، وكيف كان توحيدهم ودعوتهم لأقوامهم؛ وأوَّلهم إبراهيم عليه السلام الذي جادل قومه الذين عبدوا أصنامًا كان يصنعها أبوه، وبيَّن لهم أن المصنوع المنحوت الذي لا يسمع ولا يبصر ولا ينطق، ولا يملك أمر نفسه - لا يضر ولا ينفع، ولا يستحق أن تنتصروا له، ولكنهم أبوا إلا أن ينتصروا لآلهتهم لَمَّا حطمها إبراهيم عليه السلام بيده!
لقد رأوا آلهتهم مكسرة مقطعة مشوَّهة، ولم تستطع أن تحمي نفسها أو تلحق الأذى بإبراهيم؛ فقد فعل فَعلته ولم يَمنعه أحد؛ لكنهم لما علموا غضبوا للآلهة؛ ثاروا لكفرهم وشركهم، وأرادوا إلحاق الأذى بإبراهيم، وأصدروا قرارًا بعد القبض عليه، وكان القرار معدًّا من قبلُ؛ لأنهم لم يقبلوا دفاع إبراهيم عن نفسه، مع أنه دفاع يبرئ ساحته ويطلق سراحه؛ كان القرار الجاهل الظالم: ﴿ حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ ﴾ [الأنبياء: 68].
لكن خاب سعيهم وضلَّ قرارُهم، ورد الله كيدَهم في نحورهم؛ كان إبراهيم وحده ليس معه إلا الله، فتوجه إليه وقال: (حسبي الله ونعم الوكيل)، فماذا حدث؟ ﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 69]، فكان سلاح المؤمنين ومَفزعهم: ﴿ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173]؛ روى البخاري عن أحمد بن يونس عن أبي بكر بن عباس قال: لما أُلقي إبراهيم في النار، قال: "حسبي الله ونعم الوكيل"، قال: وكذلك قال محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: ﴿ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ﴾ [آل عمران: 173].
من
الأنبياء الذين ذكرهم الله تعالى في هذه السورة نوح وإبراهيم وموسى وهارون، وإسحاق ويعقوب ولوط، وداود وسليمان، وأيوب وإسماعيل وإدريس، وذو الكفل وذو النون، وزكريا ويحيى، ومريم (دون التصريح باسمها)، وهؤلاء ثمانية عشر نبيًّا بإضافة خاتمهم (عليهم الصلاة والسلام)، الذي خاطبه ربه عز وجل بقوله: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ * قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ ﴾ [الأنبياء: 107 - 109]، وفيها مسائل:
الأولى: من رحمة الله تعالى بالناس إرسال الرسل، وتلك من خصائص الربوبية؛ ليأمروا الناس بتوحيد الله، وهي الثانية:
الثانية: قال الله تعالى في صدر السورة: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنبياء: 7]، وقال في خواتيم السورة: ﴿ قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾ [الأنبياء: 108]، فجميع الرسل قد اصطفاهم الله وأوحى إليهم: ﴿ أنما إلهكم إله واحد ﴾، فقضية
التوحيد هي الأولى في هذه الحياة وهي الأساس في دعوة الأنبياء؛ والتوحيد هو الإسلام لله؛ وهي الثالثة:
الثالثة: ﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [الأنبياء: 108]؛ أي: منقادون موحدون مطيعون لله؟
الرابعة: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا ﴾ [الأنبياء: 109]؛ أي: عن الإسلام والتوحيد، ﴿ فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ ﴾ [الأنبياء: 109]؛ يقول القرطبي: "أي أعلمتكم على بيان أنا وإياكم حرب لا صلح بيننا، وقيل: آذنتكم بالحرب، ولكن لا أدري متى يؤذن لي في محاربتكم". وسيحكم الله بيني وبينكم: ﴿ قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ ﴾ [الأنبياء: 112]؛ أي: احكُم بيني وبين هؤلاء المكذِّبين، وانصُرني عليهم، ﴿ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 112].