ظهرت داخل المدن الإسلامية عمائر فريد، منها الحمامات الشعبية والخانقاوات والربط والتكايا وغيرها من المنشآت الروحية التي استهدفت توافر الجو المناسب للعبادة والتقرب إلى الله سبحانه وتحقيق الصفاء الروحي الذي يبعد الإنسان لساعات معدودة من الليل والنهار عن ماديات الحياة ومشاغلها.
المنشآت الروحية في
الحضارة الإسلامية
فالربط والخانقاوات والزوايا والتكايا عمائر ومنشآت روحية لم يعرفها العالم إلا في المدن الإسلامية، وقد ظهرت هذه المنشآت منذ القرن الأول للهجرة، وانتشرت في شرق العالم الإسلامي في القرن الرابع الهجري، وكان يأوي إليها العباد لقضاء ليلهم في العبادة والصلاة والدعاء.
الخانقاوات في
الحضارة الإسلامية
وتاريخ الخانقاوات يرجع إلى زمن ذي النون المصري وابن الفارض والصوفية والمتعبدين حيث اختلف الأمر في تاريخها بين الناس، ولكن من المؤكد أن كلمه الصوفية تعني الصفاء الروحي، والخانقاوات قد فسرها الجاحظ وابن بطوطة والمقريزي بأنها كلمة باللغة الفارسية تعني: بيت العبادة.
ومعروف أن هذه الخانقاوات ظهرت في القرن الرابع الهجري ووصلت إلى قمة مجدها في القرن السادس، وسميت في بلاد المغرب العربي بالزوايا، وهذا ما جعل ابن بطوطة يطلق على الخانقاوات التي رآها في مصر لفظ الزوايا، إذ يقول في معرض حديثة عن مصر: "وأما الزوايا فكثيرة، وهم يسمونها خوانق، واحدتها خانقة".
واستخدم المقريزي مصطلح الزاوية بالمعنى عينه إذ فرق في بغداد بين الخانقاوات والربط والزوايا، وذكر كل نوع في قائمة مستقلة، إلا أنه في تعريفه لكل منها لم يخرج عن معنى واحد هو أنها جميعًا كانت بيت الصوفية ومنزلهم.
تعريف الخانقاه
الخانقاه، بالقاف والكاف، جمعها خوانق وخانقوات، والخانقاه كلمة مركبة من أصل فارسي، ومعناها دار التعبد، وهي نوع من المعابد التي يلزمها نفر من المسلمين فيحبسون أنفسهم من أجل التعبد، من دون أن يزاولوا أي عمل آخر، معتمدين على ما يوقفه عليهم الأغنياء من مأكل وملبس.
تاريخ
الخانقاه في الإسلام
وقد أقيمت أول خانقاه في الإسلام في القرن الرابع الهجري، إلا أنه قبل ذلك بكثير أقام زيد بن صبرة في البصرة بالعراق في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه أول مسكن لإقامة بعض المسلمين حتى يتفرغوا للعبادة طوال اليوم، وذلك أنه عمد إلى رجال من أهل البصرة قد تفرغوا للعبادة وليس لهم تجارات ولا غلات فبنى لهم دورًا وأسكنهم فيها وجعل لهم ما يصلحهم من مطعم ومشرب وملبس وغيره.
وكان أول من أسس
الخانقاه السلاجقة ونالت اهتماًم ًخاصًا في العهد الأيوبي واستمرت تُؤدي دورها في العهد المملوكي، وما إن حل القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي حتى أفل نجمها وبدأت تتراجع.
الخانقاوات والرجوع إلى الله
يعود انتشار الخانقاوات في العالم الإسلامي في نهاية العصور الوسطى إلى الظروف التي أحاطت بالمسلمين وأدت إلى اشتداد تيار التصوف بعد أن كان هادئا، فأقبل كثيرون على حياة الزهد والعبادة إيمانًا منهم بأن الرجوع إلى الله هو خير وسيلة لكشف الغمة التي حلت بالمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ولذا انتشرت الخانقاوات والزوايا لاستيعاب هؤلاء الراجعين إلى الله.
النظام داخل الخانقاوات
لقد كان النصف الأول من القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي فترة مهمة في تاريخ الخانقاوات فقد قام الصوفي أبو سعيد بن أبي الخير المتوفي عام 440 هـ /1048م بوضع نظام لأهل الخانقاوات يتكون من عشرة أحكام، وحسب رأي من جاء بعد أبي سعيد بأن أبا سعيد هو أول من نظم الحياة الجماعية في الخانقاوات وفقاً لنظام أبي سعيد.
فقد كان المتصوفة يعيشون داخل الخانقاوات أو الزوايا وفق نظام دقيق في المأكل والمبيت ومباشرة ضروب العبادة من صلاة وذكر وغير ذلك، وفي داخل
الخانقاه عدد معين من الخلوات لكل متصوف خلوة يتعبد فيها عندما يخلو بنفسه في غير أوقات صلاة الجماعة.
وكان لكل خانقاه أو زاوية شيخ يرأس المتصوفة فيها، روعي فيه أن يكون من الجماعة المتصوفة، ممن عرف بصحبة المشايخ، وألا يكون قد اتخذ من التصوف حرفة.
كذلك كان لكل خانقاه حمام ومطبخ وخزانة للأشربة والأدوية، كما عين لكل خانقاه حلاق لحلق الرؤوس، هذا فضلًا عن طبيب وكحال، وبذلك يتوافر لأهل
الخانقاه كل الضرورات التي تغنيهم عن العالم الخارجي.
وقد أشار المقدسي إلى أن الخوانق كانت جزءًا أساسيًا من النظام الديني للكرَّامية وقد ازدهرت جماعة الكرَّامي في خراسان، وجورجان، وطبريستان، وغرب القدس حول قبر ابن كرَّام وكان لهم خوانق.
ويعتبر نهاية القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي، بداية تطور الخوانق بظهور الشيوخ في نيسابور، وهو ما أشار إليه المقريزي، وتعتبر فترة النصف الأول من القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي، فترة التأسيس والتنظيم، ومنذ هذه الفترة ألحق المدفن بالخانقاه وقد ارتبط التصوف بالمذهب الشافعي ثم بالمذهب المالكي، إلى الانتشار الكبير والسريع خارج إيران، وأنشأ السلاجقة في الربع الثالث من القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي مجموعة من الخوانق في سوريا ودمشق.
وكانت تُدرس في
الخانقاه العلوم الدينية كالحديث والشريعة والفقه والتفسير حسب المذاهب الأربعة رغبة في نشر الفكر الديني السني .
انتشار الخانقاوات
لم تقتصر الخانقاوات على مصر فقط، فقد انتشرت حتى بلغت حدود إيران الشرقية وأفغانستان في منتصف القرن السـادس الهجري / الثاني عشر الميلادي أمـا في مستهل القرن السابع هجري / الثالث عشر الميلادي، عندما فر السلاطين الغوريون إلى الهند بعد أن طردهم أمراء المماليك، وتلا ذلك هجرة الصوفيين وبالتالي تأسس طريقتين من طرق الدراويش هما: الجشتية والسهروردية وقد اعتمدتا على شبكة واسعة من الخانقاوات ظهرت في السلطة الجديدة.
وفي القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي فرض السلطان محمد إصلاحات على الحركة الصوفية بالهند، اتخذت تلك الإصلاحات صورة العودة إلى الخانقاوات وتوسيع شبكتها في الهند وهذا النمط من العمائر الذي جُلب من إيران في القرن السابع الهجري ازدهر ازدهاراً كبيراً لم يشهده أي مكان آخر حتى العصر الحديث وهو يُعد من المظاهر الخاصة للإسلام بالهند.
خانقاه صلاح الدين
وفي مصر يذكر أن أول الخانقاوات خانقاه سعيد السعداء التي أنشأها صلاح الدين الأيوبي سنة 569هـ، وعرفت باسم خانقاه الصالحية، وأوقف لها الأوقاف، ولهذه
الخانقاه قصة فهي في الأصل تخص أحد القائمين بالخدمة في عهد الخليفة المستنصر وهو عنبر، إلا أنه قتل وصلب على باب زويلة، وسكنها من بعده الصالح طلائع ثم الوزير شاور، وعندما جاء زمن صلاح الدين الأيوبي بعد انقضاء عهد الفاطميين في مصر جعلها وقفا للصوفية ولقب شيخها بشيخ الشيوخ وأوقف هذه
الخانقاه على فقراء الصوفية، ورتب لهم طعاما وبنى لهم حماما في الدار.
خانقاوات العصر المملوكي
وعندما كثر المتصوفة الراغبون في العيش بالخانقاوات في العصر المملوكي، بنيت عدد من الخانقاوات في منطقة صحراء المماليك والجمالية والسيدة زينب مثل: خانقاه السلطان الأشرف برسباى، وخانقاه السلطان الناصر فرج بن برقوق في صحراء المماليك، وخانقاه بيبرس الجاشنكير في شارع الجمالية، وخانقاه الجاولي في شارع مراسينا في حي السيدة زينب، وخانقاه وقبة شيخون في شارع الصليبة.
وقد اختصت هذه الخانقاوات بالكثير من الفنون
الإسلامية الجميلة لأن معظمها أنشئت في العصر المملوكي، وكان إنشاء أي خانقاه يعتبر هدية مملوكية للشعب ولفقراء الصوفية. فكان الأمراء والسلاطين يقومون بوقفها وافتتاحها بأنفسهم في احتفال مهيب، فقد ذكر ابن بطوطة أن أمراء مصر كانوا يتنافسون في بناء الزوايا والخانقاوات فإذا تم بناء إحداها افتتحها السلطان في حفل كبير يحضره رجال الدين والقضاة ومشايخ الصوفية.
أما التميز المعماري فنجده يشتمل على الكثير من آيات التفوق كما يؤكد د: عاصم رزق في كتابه "خانقاوات الصوفية في مصر"، حيث أظهر المعماريون تفوقهم في تصميم المداخل والمخارج والمحاريب والنقش والكتابة، فلم يكن هناك فارق يذكر بين تخطيط المسجد والخانقاه.
وقد تطور الأمر وبدأ المسلمون يدرسون في هذه الخانقاوات المذاهب الفقهية وكانت تختص كل خانقاه في القرن الثامن الهجري بمذهب، فقد كان فقه الإمام الشافعي يدرس في
الخانقاه الجاولية، والحنفي في
الخانقاه الجمالية، بينما درست المذاهب الأربعة في
الخانقاه الشيخونية.
خانقاه بيبرس الجاشنكير
ومن أشهر خانقاوات العصر المملوكي خانقاه بيبرس الجاشنكير التي أنشأها في القاهرة العام 706هـ / 1309م، قبل أن يتولى السلطة، وأنشأ بجانبها رباطًا كبيرا يتوصل إليه من داخلها، وألحق فيها قبة كبيرة، وأسكن فيها 40 صوفيا، وبالرباط 100 جندي.
وتقع هذه
الخانقاه حاليا في شارع الجمالية، وكان موقعها جزءًا من أرض دار الوزارة الفاطمية الكبرى التي أنشأها الوزير الفاطمي الأفضل شاهنشاه ابن بدر الجمالي، وتتألف
الخانقاه من صحن مستطيل التخطيط في جانبين متقابلين منه إيوانان كبيران معقودان، أحدهما إيوان القبلة، وفي الجانبين الآخرين خلاوي للصوفية، بعضها فوق بعض، ويتوسط إيوان القبلة محراب حجري يتميز بالبساطة والخلو من الزخارف بما يتناسب مع طبيعة الخانقاه، ومدخل
الخانقاه يعلوه عقدة مستديرة الشكل، وتعلوه المئذنة، ويجاور المدخل الضريح الذي تعلوه القبة.
عمارة الخانقاوات
وعمارة
الخانقاه كان يشبه إلى حد كبير عمارة المدرسة، ولا يختلف مسقط
الخانقاه عن مسقط المدرسة، إلا أنه في بعض الأحيان تعمل الخلوات في جناح منفصل وذلك إذا اجتمعت المدرسة والخانقاه في مجموعة واحدة مثلما حدث في مدرسة وخانقاه برقوق في النحاسين حيث عملت الخلوات منفصلة في أربع وحدات سكنية خلف المدرسة في الجهة الغربية.
وفي
الخانقاه نجد كثيرا من الآثار الإسلامية، مثل المساجد والمدارس المملوكية والأضرحة ما يعتبره علماء الآثار مسجدا وخانقاه في آن واحد، مثل جامع وخانقاه علاء الدين البندقداري الصالحي البخمي 683هـ، والتي عرفت بالخانقاه البندقدارية، ومدرسة وخانقاه بيبرس الجاشنكير 708هـ.
ماذا قدمت
الخانقاه للحضارة الإسلامية؟
ويمكن أن نجمل الفوائد التي قدمتها منشأ
الخانقاه إلى
الحضارة الإسلامية مما يلي:
1- لقد ساعدت هذه المنشأة على تعليم القرآن الكريم والسنة والعلوم الأخرى لروادها وبالتالي تعميق الفكر الديني.
2- كما ساهمت في تشجيع المتصوفة والدراويش والمحتاجين في اللجوء إليها لتعلم الإسلام ودفع شبح الجوع والعرى عن كثير من طبقات الشعب وهو إسهام في حل المشاكل الاجتماعية.
3- كانت
الخانقاه مدرسة يتعلم فيها الناس روح الجهاد في سبيل الله والتضحية في سبيل الدين والوطن وقد شارك نزلاء الخانقاوات في الحروب ضد الفرنج الصليبيين في بلاد الشام.
4- ساهمت الأوقاف
الإسلامية التي كانت توقف على الخانقاوات في إنعاش الحياة الاقتصادية في بلاد المسلمين وحل مشاكل اجتماعية كثيرة.
5- أنعشت حركة التصوف وازداد عدد المتصوفين وأغتنت حركة الثقافة
الإسلامية عن طريق الندوات والمناقشات والمجادلات التي يعقدها المتصوفة ورجال الدين بالخانقاوات والمدارس.
6- ساهمت في تطوير الحركة العلمية عن طريق مساهمتها في تأسيس المدارس وتشجيع طلبة العلم على ريادتها، وبما كان يلقيه الشيوخ من دروس على روادها في علوم اللغة والفقه والحساب إلى جانب علوم الدين والكلام والفلسفة .
ختاما ً
يمكن القول إن
الخانقاه لعبت دوراً إيجابياً في حياة المسلمين وبالتالي في
الحضارة الإسلامية، إلا أنها مع الأسف تراجعت في نهاية العهد المملوكي وقل شأنها ومما زاد في تراجعها سيطرة الدولة عليها، وما إن جاء العصر العثماني حتى أصبحت تلك المنشـآت مـأوى للفقـراء واللصوص والحشاشين وغيرهم من الآبقين وقطاع الطرق، فتحولت إلى تكايا يلجأ إليها العاطلين عن العمل وغيرهم مما ساعد في تلاشيها واختفائها وحل محلها مؤسسات جديدة.