وصف الزمن
اخترع البشر الساعات التي نعرفها حاليًا أجهزةً لمعرفة الوقت. وفقًا للعقد
الاجتماعي، ينظم البشر نشاطاتهم اليومية تبعًا للوقت الذي تُظهره ساعة المعصم،
لكن يختلف الأمر في أدمغتنا، فهي لا تُدرك المدة الزمنية باستخدام الوحدات
المعيارية للزمن -الدقائق والساعات، إذ تنتمي طبيعة الوقت في تجاربنا
وذكرياتنا إلى نوع آخر من الزمن.
في سياق التطور، طوّرت الكائنات الحية متضمنةً البشر ساعات بيولوجيةً متعددةً
لمساعدتنا على الحفاظ على مسار الزمن وتتبعه، تمتاز هذه الأجهزة العصبية
المختلفة بالفترات الزمنية التي تقيسها، والظواهر التي تضبط الساعات العصبية
وفقًا لها. تضبط عمليات خارجية بعض هذه الأجهزة، مثل الساعة اليومية المضبوطة
وفقًا لشروق الشمس وغروبها، تُساعد هذه الساعة الكائنات الحية على التكيّف
مع تبدلات الضوء التي تحدث خلال اليوم.
أما البعض الآخر من هذه الأجهزة فتضبطه ظواهر أو عمليات من منشأ داخلي،
مثل خلايا الساعة الحُصينية -الحُصين بنيةً دماغية تؤدي دورًا مهمًا في دمج
المعلومات من الذاكرة قصيرة المدى مع الذاكرة طويلة المدى، وفي الذاكرة
المكانية التي تمكّن الشخص من التجول- التي تُشكل إشارةً متسلسلةً شبيهةً
بالدومينو تتعقب فترات زمنية بدقة تصل إلى 10 ثوان. نعلم اليوم الكثير عن الآليات
التي يدرك بها الدماغ الفترات الزمنية الصغيرة مثل الثواني، لكننا نعلم القليل
عن الجدول الزمني الذي يستخدمه الدماغ لتسجيل تجاربنا وذكرياتنا،
الذي قد يستمر من ثوان إلى دقائق حتى ساعات.
ساعة عصبية للزمن المُدرك
اكتشف ألبيرت تساو وزملاؤه في معهد كافلي للعلوم العصبية ساعةً عصبيةً
تحافظ على مسار الزمن بدقة خلال التجارب.
رصد الباحثون إشارةً قويةً مُمثلةً للوقت توجد عميقًا في الدماغ بواسطة تسجيل
الإشارات التي تصدرها مجموعة من الخلايا الدماغية.
يقول ألبيرت تساو:
«تكشف دراستنا عن كيفية إحساس الدماغ بالزمن بوصفه حدثًا مُدرَكًا، فلا تعبر
هذه الشبكة من الخلايا عن الوقت بوضوح، وما قسناه حقيقةً كان أقرب إلى زمن
شخصي مُشتق من التدفق المستمر للتجربة».
تعمل الساعة العصبية على ترتيب تدفق تجاربنا ضمن تسلسل منظم للأحداث،
يؤدي ذلك إلى ظهور الزمن الشخصي، إذ تمثل التجربة وتتالي أحداثها المواد
التي يُنشئ الدماغ بواسطتها الزمن الشخصي ويقيسه.
فراغ زمني وذاكرة دماغية يقول البروفيسور موزر: «نمتلك اليوم فهمًا جيدًا للطريقة التي تعالج بها أدمغتنا
الفراغ، في حين أن معرفتنا عن الزمن أقل ترابطًا. من السهل نسبيًا الاستقصاء
والبحث في مناطق الدماغ المسؤولة عن إدراك الفراغ، فهي تتألف من أنماط خلوية
متخصصة بوظائف محددة، إذ تشكل مناطق إدراك الزمن والفراغ دعائم هذا النظام».
سنة 2005، اكتشف ماي-بريت وإدوارد موزر الخلايا الشبكية التي ترسم خارطة
بيئتنا على مقاييس ومستويات مختلفة بواسطة تقسيم الفراغ إلى وحدات
سداسيّة. سنة 2014، تشارك موزر جائزة نوبل في الطب والفيزيولوجيا مع زميله
ومعلمه جون أوكيف من جامعة لندن لاكتشافه الخلايا التي تشكل نظام تحديد
الموقع في الدماغ.
بدأ ألبيرت تساو، مرشح الدكتوراه في معهد كافلي سنة 2007، بفك شيفرة
ما يحدث في القشرة الشمية الداخلية الوحشية المبهمة، مُلهمًا باكتشاف
موزر للخلايا الشبكية المُشفرة للفراغ. تقع هذه المنطقة من الدماغ بجوار القشرة
الشمية الداخلية الأنسية، وهو المكان الذي توجد فيه الخلايا الشبكية
التي اكتشفها المشرفون موزر وماي-بريت.
يقول تساو: «كنت على أمل إيجاد خلية تشغيل رئيسية مشابهة تكشف الهوية
الوظيفية لهذه الشبكة العصبية». أثبتت هذه المهمة أنها مشروع يستغرق الكثير
من الوقت. يقول البروفيسور موزر: «لم يظهر وجود نمط محدد لنشاط هذه الخلايا،
فقد كانت الإشارة تتغير دائمًا». لم يشك الباحثون في أن الإشارة كانت تتغير مع الزمن إلا خلال السنتين الماضيتين، إذ بدأت البيانات المسجلة تصبح منطقيةً فجأةً.
وصف الصورة: يُظهر الرسم التوضيحي الوقت العرضي من تجربة تزلج مدة أربع
ساعات على جبل شديد الانحدار، متضمنةً الأحداث التي بدلت إدراك المتزلج للوقت،
تقوم الفكرة على أن الزمن المُجرب يعتمد على الأحداث وربما يُدرك الزمن أسرع
أو أبطأ من الزمن في ساعات المعصم. تقع البنية العصبية المُكتشفة حديثًا
التي تسجل الوقت المُجرب في القشرة الشمية الداخلية الوحشية، بجوار القشرة
الوحشية تقع القشرة الشمية الداخلية الأنسية، التي تمثل مركز الفراغ في الدماغ
(غير مُمثل على الصورة). بجوار القشرة الأنسية يقع الحصين، وهو البنية التي تأتي
إليها المعلومات من شبكات الزمان والمكان لتشكل ذكريات عرضية.
يقول البروفيسور موزر: «الزمن ليس عمليةً متوازنة، فهو فريد ودائم التغير.
وإذا كانت هذه الشبكة ترمز إلى الزمن فعلًا، فستتغير الإشارة بمرور الوقت
لتسجل التجارب بوصفها ذكريات فريدة».
التقدم التكنولوجي
كان موزر وزميله بحاجة إلى فك شيفرة الإشارة الصادرة عن خلية شبكية واحدة
للكشف عن كيفية تشفير الفراغ في القشرة الشمية الداخلية الأنسية.
أثبتت مهمة فك شيفرة الزمن في القشرة الشمية الداخلية الوحشية أنها عملية
أكثر تعقيدًا، لم يتمكن تساو وزملاؤه من ملاحظة تشفير الإشارة للزمن إلا عندما
نظروا إلى نشاط مئات الخلايا.
يقول البروفيسور موزر: «فعالية هذه الشبكات العصبية موزعة للغاية، حتى أن
الآلية بحد ذاتها ربما تكمن في بنية الاتصال ضمن الشبكات. تشير حقيقة إمكانية
تشكيل هذه الفعالية في أنماط فريدة ومتنوعة إلى مستوى عال من اللدونة.
قد تستحق هذه الشبكات الموزعة ومزيج البنى الفعالة المزيد من الاهتمام في
المستقبل. بهذا العمل، وجدنا منطقةً فعالة متصلة بقوة مع زمن الحدث أو التجربة،
ما قد يفتح مجالًا جديدًا للبحث».
شكل الزمن
طالما كانت بنية الزمن مَوضِعًا تتنازع عليه الفلاسفة والفيزيائيين على حدّ سواء.
ما الذي يخبرنا به الاكتشاف الجديد لآلية الدماغ في تسجيل الزمن العرضي
عن كيفية إدراكنا للوقت؟ هل إدراك الوقت خطيٌّ مثل نهر متدفق،
أم هو دائري مثل عجلة أو قوقعة؟ تقترح البيانات المستخلصة من دارسة
معهد كافلي أن كِلا الأمرين صحيح، وأنه يمكن الإشارة في شبكة تشفير الوقت
أن تأخذ أشكالًا عدةً حسب التجربة التي يخوضها الشخص.
ملخص تكامل الوقت من التجربة في القشرة الشمية الداخلية الوحشية
يُعد تشفير الوقت وارتباطه بالأحداث خطوةً حاسمةً لتشكل الذاكرة العرضية،
لكن ما زلنا نجهل آلية إنجاز هذه العمليات في الدوائر الشمية الداخلية-الحصينية.
نُظهر هنا كيف شفرت الجرذان -التي كان لها حرية التجول والبحث عن الطعام-
المعلومات الزمنية بقوة عبر مقاييس زمنية من ثوان إلى ساعات في القشرة
الشمية الداخلية الوحشية. لم يكن التشفير البارز للوقت موجودًا في القشرة
الشمية الداخلية الأنسية أو مناطق الحصين (CA3-CA1).
عندما قُيِّدَت تجارب الحيوانات بواسطة مهمات سلوكية لتصبح متشابهة عبر التجارب
المتكررة -تجربة المتاهة على شكل 8، انخفض مقدار تشفير التدفق الزمني
عبر التجارب، في حين تحسن تشفير الوقت مقارنةً ببداية التجارب، إذ أصبح أدق.
تشير النتائج إلى أن مجموعات الخلايا العصبية في القشرة الشمية الداخلية
الوحشية تمثل الوقت بطبيعتها عبر تشفير التجربة، يتكامل هذه التمثيل للزمن
العرضي مع المعلومات الواردة عن الفراغ والأبعاد من القشرة الشمية الداخلية
الأنسية في الحصين، وبذلك يخزن الحصين تمثيلًا موحدًا عن «ماذا وأين ومتى؟»