راحة
الأسير البدنية
إن الناظر لحرص المنهج الإسلامي على راحة
الأسير البدنية والصحية ليُدرك – بما لا يدع مجالاً للشك – أن هذا المنهج إلهي، وليس من صُنع البشر! إنه ليس من أحد أرحم بالعباد من الله تعالى، ومن رحمته أنه أوصى برعاية
الأسير حتى لو كان هذا
الأسير كافرًا به سبحانه! وقد أبدع رسول الله صلى الله عليه وسلم في تطبيق هذا المنهج الإلهي الرحيم فخرجت لنا عدة مواقف نجزم أنها لا توجد في تاريخ أمة غير أمة الإسلام. وسوف يكون حديثنا في هذا المبحث من خلال المطالب الآتية:
المطلب الأول: إطعام الأسرى
قال الله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]. في هذه الآية الكريمة من الدستور الإسلامي - القرآن الكريم - يحثُّ الله تعالى عباده المؤمنين على الإحسان إلى أسراهم وإطعامهم، ويعِدُهم بذلك النعيمَ في الآخرة، وليس هذا الإحسان في حال توفر المال فقط، بل إن الله يأمر أن يكون هذا الإطعام والإحسان في كل الأحوال، حتى في حال الفقر والاحتياج! وهذا الذي تحمله لنا كلمة "على حبِّه".. يقول ابن كثير: أي يُطعمون الطعام وهم يحبونه ويشتهونه . ثم إن الأروع من ذلك أن الله عز وجل يحثُّ المسلمين على فعل ذلك لا لشيء إلا لله تعالى، فيقول: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9] فنحن لا نُكْرِم الأسرى أو نطعمهم لرغبتنا في ثناء معين، أو طلبًا للمعاملة بالمثل، أو خوفًا من رقابة محلية أو عالمية، أو لغير ذلك من مصالح الدنيا، إنما نفعل ذلك لأننا نتقرب بهذا الفعل إلى الله تعالى، ونرجو منه سبحانه المكافأة والجزاء، وهذا يُعطي أمانًا أكثر للأسير، لأن المسلم يُحسن معاملته وهو يعلم أن الله يراقبه، ومادام الله يراقبنا في كل أحوالنا فسوف نُحسن إلى الأسرى في كل تعاملاتنا!
إنها فلسفة إسلامية سماوية راقية ليست في أيٍّ من مناهج الأرض!
قال ابن عباس: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في غزوة بدر أن يكرموا الأسارى، فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغداء، وهكذا قال سعيد بن جبير، وعطاء، والحسن، وقتادة .
ويعلق ابن جريج على نفس الآية فيقول: لم يكن
الأسير على عهد رسول الله إلا من المشركين، وقال أبو عبيد: فأرى أن الله قد أثنى على من أحسن إلى أسير المشركين .
ولم يكن الصحابة رضوان الله عليهم يُقدِّمون للأسرى ما بقي من طعامهم، بل كانوا ينتقون لهم أجود ما لديهم من طعام، ويجعلونهم يأكلونه عملاً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم، وهاهو أبو عزيز - شقيق مصعب بن عمير رضي الله عنه - يحكي ما حدث يقول: "كنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خَصَّوْني بالخبز، وأكلوا التمر لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها؛ فأستحي فأردها فيردها عَلَيَّ ما يمسها! قال ابن هشام: وكان أبو عزيز هذا صاحب لواء المشركين ببدر بعد النضر بن الحارث. أي أنه لم يكن شخصية عادية، بل كان من أشد المشركين على المسلمين، فلا يحمل اللواء إلا شجعان القوم وسادتهم! ولكن هذا لم يغير من الأمر شيئًا، لأن الرحمة بالأسير أصل من أصول التعامل لا يجوز التخلي عنه تحت أي ظرف.
المطلب الثاني: كسوة الأسرى
لم يقتصر المسلمون على إطعام أسراهم من المشركين؛ بل إنهم كانوا يقدمون لهم الملابس أيضًا، وهذا ثابت في الصحيح، فقد جعل البخاري رحمه الله بابًا في الصحيح سمّاه: باب الكسوة للأُسارى، وذكر فيه أن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "لَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ أُتِيَ بِأُسَارَى وَأُتِيَ بالعباس وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثَوْبٌ فَنَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَهُ قَمِيصًا فَوَجَدُوا قَمِيصَ عبد الله بن أبي يَقْدُرُ عَلَيْهِ فَكَسَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهُ.." الحديث.
وورد أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر لأسرى هوازن بالكساء فقد أمر رجلًا أن يقدم مكة فيشتري للسبي – الأسرى - ثياب المُعَقَّد ، فلا يخرج الحرُّ منهم إلا كاسيًا .
المطلب الثالث: توفير المأوى لهم:
حتى يتم النظر في شأن الأسرى كان المسلمون يجعلونهم في أحد مكانين إما المسجد وهو أشرف مكان عند المسلمين، وإما بيوت الصحابة رضي الله عنه.
وكان المستهدف من إبقاء الأسرى في المسجد أن يروا أخلاق المسلمين وعبادتهم لعلهم يتأثرون بها، فيدخل الإيمان في قلوبهم، وقد حدث هذا بالفعل مع بعضهم كثمامة بن أثال رضي الله عنه .
وأما إبقاء الأسرى في منازل الصحابة رضي الله عنهم فكان هذا إكرامًا كبيرًا من المسلمين لهؤلاء الأسرى؛ فعن الحسن البصري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُؤتَى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول: «أَحْسِنْ إليه»، فيكون عنده اليومين والثلاثة، فيؤثره على نفسه .
لم يكن اهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسرى عن طريق راحتهم
البدنية فقط، إنا كان يحرص تمام الحرص على راحتهم النفسية كذلك، وهذه مشاعر راقية لم يكن يعرفها أو يسمع عنها أهل زمانهم، بل لعلنا لا نبالغ إذا قلنا أنه حتى بعد هذا التطور الكبير في المجتمعات الإنسانية ما زالت البشرية تفتقد مثل هذه المشاعر الفيَّاضة، والأحاسيس المرهفة!
وسوف يكون حديثنا – بإذن الله – في هذا الموضوع من خلال المطلبين الآتيين:
المطلب الأول: الرفق بالأسرى، واللين معهم
من أخلاق الإسلام البارزة في التعامل مع الأسرى الرفقُ ولين الجانب، حتى يشعروا بالأمن والطمأنينة، وقد كان من أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يردُّ على استفسارات الأسرى، ولا يسأم أو يَمَلُّ من أسئلتهم، مما يُوحِي بسعة صدره، وعمق رحمته صلى الله عليه وسلم التي شملت البشر جميعًا...
ففي صحيح مسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: " كَانَتْ ثَقِيفُ حُلَفَاءَ لِبَنِي عُقَيْلٍ فَأَسَرَتْ ثَقِيفُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَسَرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنْ بَنِي عُقَيْلٍ وَأَصَابُوا مَعَهُ الْعَضْبَاءَ فَأَتَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الْوَثَاقِ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: «مَا شَأْنُكَ؟»
فَقَالَ: بِمَ أَخَذْتَنِي وَبِمَ أَخَذْتَ سَابِقَةَ الْحَاجِّ؟
فَقَالَ: «إِعْظَامًا لِذَلِكَ أَخَذْتُكَ بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِكَ ثَقِيفَ».
ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ فَنَادَاهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَحِيمًا رَقِيقًا فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ: "مَا شَأْنُكَ؟"
قَالَ: إِنِّي مُسْلِمٌ.
قَالَ: "لَوْ قُلْتَهَا وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَكَ أَفْلَحْتَ كُلَّ الْفَلَاحِ"، ثُمَّ انْصَرَفَ فَنَادَاهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: «مَا شَأْنُكَ؟»
قَالَ: إِنِّي جَائِعٌ فَأَطْعِمْنِي وَظَمْآنُ فَأَسْقِنِي، قَالَ: «هَذِهِ حَاجَتُكَ» .
فهذا التردد على الرجل كلما نادى عليه صلى الله عليه وسلم - وهو القائد الأول للدولة الإسلامية - ومناداته باسمه صلى الله عليه وسلم مجردًا يدل على مدى الرحمة والإنسانية التي يحملها
الرسول صلى الله عليه وسلم في قلبه لكل البشر.
وروى الأسود بن سريع أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِأَسِيرٍ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَتُوبُ إِلَيْكَ وَلَا أَتُوبُ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "عَرَفَ الْحَقَّ لِأَهْلِهِ" ، وهذا مما يدل على سماحته صلى الله عليه وسلم وعفوه وَصَفْحِهِ، وسعة صدره، وحسن تعامله.
وأعطى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأبي الهيثم بن التيهان أسيرًا، وأمره بالإحسان إليه، فأخذه أبو الهيثم إلى منزله، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني بك خيرًا، فأنت حُرٌّ لوجه الله، ورُويَ أنه قال له: "أنت حر لوجه الله، ولك سهم من مالي".
المطلب الثاني: احترام مشاعرهم الإنسانية
إن الإسلام يرفع من قيمة البشر، ويحترم المشاعر الإنسانية احترامًا كبيرًا، سواء مع المسلمين أو مع غيرهم، وقد وجدنا تطبيقات عملية كثيرة لهذا الأمر في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ويظهر هذا الأمر بوضوح في أوقات الشدائد وبعد الحروب خاصة، فنجد النبي صلى الله عليه وسلم يوجِّه أصحابه الكرام توجيهات إنسانية راقية في شأن التعامل مع الأسرى من النساء والأطفال؛ فينهى عن التفريق بين الأم وطفلها؛ فعَنْ أبي أيوب رضي الله اعنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: «مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
ولعل القصة التالية تكون خاتمة جميلة لهذا المبحث، حيث تظهر فيها رحمة
الرسول صلى الله عليه وسلم في أبهى صورها، فقد أتى أبو أسيد الأنصاري رضي الله عنه بسبي من البحرين فَصُفُّوا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر إليهم؛ فإذا امرأة تبكي؛ فقال: "ما يُبْكِيكَ؟" فقالت: بِيعَ ابني في بني عبس؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي أسيد: "لَتَرْكَبَنَّ فَلَتَجِيئَنَّ به"، فركب أبو أسيد فجاء به !
لقد رق قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة الأسيرة فأرسل أحد جنوده إلى بلد بعيد ليأتي لها بابنها، حتى يهدأ بالها، وتجف دموعها!
ولعل السؤال الأبرز الذي يخطر على بالنا الآن: هل هناك قائد عسكريٌّ في العالم ينتصر في معركة فيشغل نفسه وجنوده بإسعاد امرأة أسيرة بسيطة لا يعرفها أحد؟!!
إن الإجابة التي يعرفها الجميع هي أن ذلك أبدًا لا يكون !!
إلا أن يكون هذا القائد هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم !!
وصدق الله إذ يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
المصدر: كتاب (أخلاق الحروب في السنة النبوية) للدكتور راغب السرجاني.
hgvs,g ,vhpm hgHsdv hgf]kdm ,hgktsdm hglwdv hgf]kdm hgvs,g ,hgktsdm ,vhpm