الجواب :
الحمد لله
شُرِع
الإحرام لإظهار تذلل العبد لربه، وذلك بإظهار الشعث، والمنع من أسباب الزينة التي تورث الفخر والعلو فإن المحرم إذا لبس ثوبي
الإحرام ، صغر عند
نفسه ، وبَعُد عنه شعور الفخر والخيلاء التي يحدثها لبس الثياب الفاخرة , فإن من المعلوم أن الزينة والثياب الفاخرة مما يبعث في النفس شعور الفخر والخيلاء والكبر , روى البخاري في صحيحه (3485) عن ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ مِنَ الخُيَلاَءِ، خُسِفَ بِهِ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الأَرْضِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ) .
وروى مسلم (2088) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل يمشي قد أعجبته جمته وبرداه، إذ خسف به الأرض، فهو يتجلجل في الأرض حتى تقوم الساعة) .
ولذلك اقتضت الحكمة للمحرم أن ينزع ثيابه المعتادة ويلبس
ملابس الإحرام التي يشترك فيها جميع الناس غنيهم وفقيرهم , كبيرهم وصغيرهم , أبيضهم وأسودهم , ساداتهم وعبيدهم .
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة - 1 (11 / 179): " لمشروعية التجرد من المخيط في الحج والعمرة حكم كثيرة منها: تذكر أحوال الناس يوم البعث، فإنهم يبعثون يوم القيامة حفاة عراة ثم يكسون، وفي تذكرة أحوال الآخرة عظة وعبرة، ومنها: إخضاع النفس، وإشعارها بوجوب التواضع، وتطهيرها من درن الكبرياء، ومنها إشعار النفس بمبدأ التقارب والمساواة والتقشف، والبعد عن الترف الممقوت، ومواساة الفقراء والمساكين ... إلى غير ذلك من مقاصد الحج على الكيفية التي شرعها الله وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم " انتهى.
وما شرعه الله تعالى ينبغي للمؤمن أن يفعله بلا حرج , وهذا هو شرط الإيمان ، وأمارة الإسلام لأحكام رب العالمين , قال تعالى : ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) [النساء: 65] .
فانتفاء الضيق والحرج من حكم الله تعالى وحكم رسوله : شرط في الإيمان .
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى في الصارم المسلول على شاتم الرسول (1 / 37): " أقسم سبحانه بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموه في الخصومات التي بينهم ، ثم لا يجدوا في أنفسهم ضيقا من حكمه بل يسلموا لحكمه ظاهرا وباطنا" انتهى.
وقال ابن القيم في التبيان في أقسام القرآن (652) ـ ط عالم الفوائد ـ : " أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسماً مؤكداً بالنفي قبله على عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم ، من الأصول والفروع ، وأحكام الشرع ، وأحكام المعاد ، وسائر الصفات وغيرها .
ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا التحكيم ، حتى ينتفى عنهم الحرج ، وهو ضيق الصدر ، فتنشرح صدورهم لحكمه كل الانشراح ، وتنفسح له كل الانفساح ، وتقبله كل القبول .
ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضاً ، حتى ينضاف إليه مقابلة حكمِه بالرضى والتسليم ، وعدم المنازعة، وانتفاء المعارضة والاعتراض" انتهى.
وقال أيضا في "الصواعق المرسلة" في الرد على الجهمية والمعطلة (1/266) ط . أضواء السلف : " فأقسم سبحانه بنفسه أنا لا نؤمن حتى نحكم رسوله في جميع ما شجر بيننا ، وتتسع صدورنا لحكمه ، فلا يبقى منها حرج ، ونسلم لحكمه تسليما ، فلا نعارضه بعقل ولا رأي ولا هوى ولا غيره " انتهى.
ومن هنا تعلم أن وجود الحرج في صدرك من هذا التشريع أمر لا بد من مجاهدته ، حتى تستقيم نفسك على أمر الله تعالى ، وحتى يكون هواك تبعا لما جاء به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
وقد قال الله تعالى أيضا : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ) الأحزاب/34
قال ابن كثير رحمه الله :
" فَهَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا حَكَمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِشَيْءٍ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مُخَالَفَتُهُ وَلَا اخْتِيَارَ لِأَحَدٍ هَاهُنَا، وَلَا رَأْيَ وَلَا قَوْلَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النِّسَاءِ:65] وَفِي الْحَدِيثِ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ). وَلِهَذَا شَدَّدَ فِي خِلَافِ ذَلِكَ، فَقَالَ: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا) ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:63] ." انتهى، من "تفسير ابن كثير" (6/423) .
وقال ابن القيم رحمه الله :
" فدل هذا على أنه إذا ثبت لله ورسوله في كل مسألة من المسائل حكم طلبي أو خبري، فإنه ليس لأحد أن يتخير لنفسه غير ذلك الحكم فيذهب إليه، وأن ذلك ليس لمؤمن ولا مؤمنة أصلاً، فدل على أن ذلك مناف للإيمان." انتهى، من "الرسالة التبوكية" (36) .
وأما ما تذكره من فتنة بعض النساء أو الرجال بذلك : فهذا علاجه سهل ، وخطبه يسير .
ومن التزم حكم الله تعالى في غض البصر ، والبعد عن المزاحمة ، ومواطن الريبة : سلم من الفتنة , إن شاء الله .
قال تعالى ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ . وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) [النور: 30، 31]
والله أعلم.