الشخصيَّة القياديَّة فطرةٌ حَبَا اللهُ بها أشخاصًا معيَّنِين، فكانوا قادة أفذاذًا، وعلى رأس هؤلاء القادة الأفذاذ يأتي أنبياء الله، الذين قادوا الأمم والشعوب إلى طاعة الله
، وقد تناول القرآن قصصهم مع شعوبهم؛ لتكون نموذجًا ومثالاً يحتذي به كل قائد؛ لذلك قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ} [يوسف: 111]، ثم سار النبي
على خُطا هؤلاء الأنبياء، فكان أعظمَ قائدٍ عرفته البشريَّة. رسول الله القائد
وإذا نظرنا إلى سيرة
رسول الله نجده قائدًا محنَّكًا -في كل أمور الحياة؛ إداريَّة، واجتماعيَّة، واقتصاديَّة، وسياسيَّة، وعسكريَّة- يعرف جيِّدًا قيمة
جنوده وقدراتهم، فعمل رسول الله
القدوة والمثل في ذلك فنجد رسول الله
يقول لزعماء قريش عندما عرضوا عليه الدنيا: "مَا جِئْتُكُمْ بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ أَطْلُبُ أَمْوَالَكُمْ، وَلا الشَّرَفَ فِيكُمْ، وَلا الْمُلْكَ عَلَيْكُمْ، وَلَكِنَّ اللهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ رَسُولاً، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ كِتَابًا، وَأَمَرَنِي أَنْ أَكُونَ لَكُمْ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَبَلَّغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي، وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فَإِنْ تَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظُّكُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِرْ لأَمْرِ اللهِ، حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ"[1]. على غرس المبادئ الإسلاميَّة الراسخة في قلوبهم، فكان أوَّلها -وأهمُّها كذلك- غرس الثقة في الهدف الذي يعملون من أجله؛ وهو إخراج العِبَاد من عبادة العِبَاد إلى عبادة الله وحده؛ وكان رسول الله
فالهدف واضح في ذهن رسول الله
، وثقته كبيرة بنصر الله له، رغم التكذيب والعناد الذي يلاقيه.
ثم نجد رسول الله
ينقل ثقته إلى أتباعه فيقول
لخبَّاب بن الأرتِّ بعدما اشتكى من قسوة تعذيب قريش له: "... وَاللهِ! لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ"[2].
ثم نجد رسول الله
يضع كل رجل مناسب في مكانه المناسب فقد كان
الرسول يعرف جيِّدًا قدرات رجاله، فهم -في نظره- العناصر الرئيسة التي يعتمد عليها القائد، ومعرفتُه بهم تصنع بينهم وبينه انسجامًا متبادَلاً، وتدفعهم لتقديم الجهود؛ بل والإبداع في عملهم، فلننظر إلى سيرته
سنجدها خيرَ شاهدٍ على ذلك، ففي
غزوة بدر يُشير الحُباب بن المنذر
-وهو الخبير بالأمور العسكريَّة- على رسول الله
بقوله: يا رسول الله، إن هذا ليس بمنزلٍ، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نغوِّر ما وراءه من القُلُب[3]، ثم تبني عليه حوضًا فنملؤه ماءً، فنشرب ولا يشربون. فيقول رسول الله
له: "لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ"[4].
ونجد رسول الله
يعرف بوضوح إمكانات كل صاحب له
؛ حتى لا يتردَّد في وصف كل واحد منهم بوصف يوضِّح تفوُّقه على أقرانه في مجال معيَّن،
فأبو بكر أرحم الأُمَّة،
وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان أصدقهم حياءً،
وعلي بن أبي طالب أقضى الصحابة،
وجعفر بن أبي طالب أخير الناس للمسكين،
وخالد بن الوليد سيف من سيوف الله،
ومعاذ بن جبل أعلمهم بالحلال والحرام،
وزيد بن ثابت أعلمهم بالفرائض،
وأُبَيّ بن كعب أقرأ الأُمَّة،
وحمزة بن عبد المطلب أسد الله[5]. الفاروق،
رسول الله القائد العسكري
كان رسول الله
قائدًا فذًّا في كل مجال من مجالات الحياة، ومن أبرز هذه المجالات المجال العسكري، وما حدث في غزوة بدر خير شاهد على هذه العبقرية في القيادة، فقَبْل المعركة بدأ النبي
في تنظيم صفوف جنوده؛ ليكونوا على استعداد تامٍّ في مواجهة مشركي قريش، ولمَّا ابتدأت المعركة بالمبارزة، اختار رسول الله
ثلاثة من جنده الأشدَّاء في مواجهة خصومهم، وقد كان اختياره موفَّقًا لأبعد حدٍّ؛ لِعِلْمِه -وهو القائد- بحقيقة جنده وحالهم، فقال رسول الله
: "قُمْ يَا عُبَيْدَة بْنَ الْحَارِثِ، وَقُمْ يَا حَمْزَةُ، وَقُمْ يَا عَلِيُّ". فقَتَل اللهُ عتبةَ وشيبةَ ابني ربيعة، والوليدَ بن عتبة، وجُرِحَ عبيدةُ، فسبَّب ذلك هزيمة نفسيَّة للمشركين قبل لقائهم الفعلي مع المسلمين، فقتل المسلمون منهم سبعين، وأسروا سبعين آخرين[6].
رسول الله القائد المبدع
كما غرس رسول الله
فيهم أيضًا مبدأ (المبادرة والإبداع)، وتظهر هذه الصفة جليَّة واضحة في الأمور التي تحتاج إلى قرار سريع حاسم، ونظر ثاقب، وقدَّم رسول الله
القدوة والمثل في ذلك، فلننظر إلى صلحه
مع مشركي قريش في
الحديبية، فهو يدلُّ -ولا شكَّ- على حُنْكَة وحسن سياسة من
الرسول القائد؛ إذ كانت من النتائج المترتِّبة على هذا الصلح أن اعْتُبِر المسلمون في درجة مساوية لقريش، وهو أوَّل اعتراف بالدولة الإسلاميَّة من أشدِّ أعدائها وأقواهم في الجزيرة العربية، بل وأدَّى أيضًا إلى محالفة مجموعة من القبائل لرسول الله
، ثم أدَّى كذلك إلى الاستقرار الأمني الذي أعان المسلمين على نشر دعوتهم ودينهم في القبائل والقرى المجاورة؛ فكان هذا الصلح دليلاً على عمق نظرته
[7].
ولننظر إلى إبداع رسول الله
وهو يخطِّط للهجرة؛ بداية من اختياره للرفيق وهو خير أصحابه أبو بكر الصديق
، ثم للطريق الذي يسلكه؛ حيث اختار رسول الله
طريقًا غير معهود لقريش، وهو طريق السواحل، وكذلك مكثه في غارٍ بجبل ثور ثلاث ليالٍ؛ حتى تهدأ الأمور، ثم اختيار عبد الله بن أُرَيْقِط المشرك دليلاً، وإرساله عبد الله بن أبي بكر ليأتي بخبر قريش، وانتهاءً برعي عامر بن فهيرة للغنم حول الغار حتى يوفِّر الأمان، ثم تتجلَّى عظمته القيادية في توكُّله بعد ذلك على الله، واطمئنانه إلى معيَّته[8]، فيقول لأبي بكر: "مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟"[9].
رسول الله القائد القدوة
ولم يعمل رسول الله
على غرس هذه القيم والمبادئ بالكلمات الجوفاء والأحاديث الرنَّانة، ولكنه كان قدوة ومثلاً في كل شيء، فكان رسول الله
يؤثِّر في الآخرين بأقواله وأفعاله في تواضعه وحلمه، ورحمته وصبره.. ففي غزوة الأحزاب نجده
يرفع معنويَّات جنوده، ويُدخل السرور عليهم عندما يشاركهم بنفسه
في حفر
الخندق، وهو يرتجز بكلمات
ابن رواحة للتراب، وقد وارى التُّراب بياض بطنه
[10]. أثناء نقله
فكان لهذا التبسُّط والمرح من رسول الله
أثره في التخفيف عن الصحابة ممَّا يعانونه أثناء هذه الغزوة، كما كان له أثره في بعث الهمَّة والنشاط، وإنجاز المهمَّة قبل وصول عدوِّهم، فكان بذلك خير قائد
.
رسول الله القائد الحازم العادل
غرس رسول الله
في أصحابه مبدأ الحزم، وكان النبي
القمَّة في هذه الصفة أيضًا؛ فلننظر إلى حزمه
عندما نادى في صحابته بعد انتهاء
غزوة الأحزاب: "أَنْ لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ"[11]. فكان قرارًا حازمًا من القائد
لجنوده، فخرج الجميع لمواجهة مَنْ خان العهد وتعاون مع الأعداء.
أمَّا عدل رسول الله
مع
جنوده فقد ضرب فيه
المثل الذي لا يُضَاهَى؛ ففي غزوة بدر كان رسول الله
ينظِّم صفوف أصحابه وفي يده قدح يعدل به القوم، فمرَّ
بسواد بن غزيَّة[12]
وهو مُسْتَنْتِل[13] من الصفِّ، فطعنه في بطنه بالقدح، وقال: "اسْتَوِ يَا سَوَادُ". فقال: يا رسول الله، أوجعتني، وقد بعثك الله بالحقِّ والعدل. وقال: فأَقِدْنِي[14]. فكشف رسول الله
عن بطنه. وقال: "اسْتَقِدْ"[15]. فاعتنقه فقبَّل بطنه، فقال رسول الله
: "مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا يَا سَوَادُ؟" قال: يا رسول الله، حضر ما ترى، فأردتُ أن يكون آخرُ العهد بك أن يمسَّ جلدي جلدك. فدعا له رسول الله
بخير[16].
هكذا كانت تعاملات رسول الله
مع جنوده، فكان بحقٍّ قائدًا إنسانًا في كل موقف من مواقف حياته، وفي كل غزوة من غزواته. فكانت تعاملاته هذه سمة قياديَّة جديدة تستمدُّ عونها وتوفيقها من الله؛ حتى يتأسَّى بها مَنْ يأتي بعده من القادة إلى يوم الدين.