سورةُ
الهمزة سورة مكية، آياتها تسع، عالجت جملةً من الأمراض الاجتماعية القاتلة؛ كإعابة النَّاس وسَبِّهم، والخوض في أعراضِهم، والطعن فيهم، وازدرائهم، والتنقصِ منهم، والسخرية بهم، والاستهزاء باللِّسان، أو بحركةِ العيون، أو إشارة اليد، وكذلك جماع الأموال الذين لا يؤدون حقَّ الله فيه، واكتناز الثروات، والإعجاب بذلك، حتى وصولهم إلى أنَّ المالَ سيخلدهم ويعطيهم فوق ما يُعطاه الناس، وبينت كذلك عاقبةَ هؤلاء جميعًا، وهي التحطيم في نارِ جهنَّم التي ستوصدُ عليهم، ويوثقون في أعمدتِها، فلا ينفذ إليهم بصيصٌ من روح أو أملٍ في خروج.
• بدأتِ السورةُ بجملةٍ اسمية نكِّر فيه المبتدأ، تضمنت الوعيدَ الشديد والعذابَ الأكيد لكلِّ من ينتقصُ من أقدار الناس: ﴿ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ﴾ [الهمزة: 1]؛ بتنكير ﴿ وَيْلٌ ﴾ المفيد لشدتِه وخطورته، وهلاكه ودماره، والهُمَزَة فُعَلَة: الذي يدلُّ على الاعتيادِ والمبالغة، وكأنَّ ذلك
الهمزة واللمزة قد صار ديدنًا له وعادة وسلوكًا، على شاكلةِ: ﴿ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ﴾ [القلم: 11].
صحيحٌ أنَّها نزلت في الأخنس بن شريق، الذي كان كثيرَ الوقيعة في النَّاس همزًا ولمزًا وسبًّا وسخرية، يلمزهم في الغدوةِ والروحة، مقبلين ومدبرين، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوصِ السَّبب، قالوا: الهُمزة الذي يغتاب الرجلَ في وجهه، واللمزة الذي يغتابُ الرَّجلَ من خلفِه، أو
الهمزة الذي يؤذي جلساءه بسوء لفظه، واللمزة الذي يكسر عينَه على جليسه، ويشير بيده أو برأسه أو بحاجبِه سخرية وانتقاصًا، فقد ورد وصفٌ خاص باللسان وهو الهمز "يعيبهم بلسانِه وينالُ منهم بلفظِه السَّاقط"، ووصف خاص بالعينين وحركة الحاجب، فاستعمال وزن فُعَلَة يدلُّ على أنَّ ذلك قد أمسى عادةً له يتصف بها وهو عنوان له، مثل اللعنةِ والضحكة، وهو نازل ومنطبق في كلِّ من يباشِرُ ذلك العمل القبيح، وهو في الوقتِ نفسه يجري مجرى التعرض بالوارد فيه، فإنَّ ذلك أزجر له وأنكر.
وبين الهمزةِ واللمزة جناسٌ غير تام، يحكي ما وراءه من اللعبِ باللفظ وتمايل الجسد، وتتابع حركاتِ العين والحاجب، ولي اللِّسانِ لإضحاك النَّاس من أثرِ التنقص والسخرية.
• ﴿ الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ ﴾ [الهمزة: 2]:
﴿ الَّذِي ﴾: اسمٌ موصول للغائبِ احتقارًا له، وكأنه لا قدرَ له ولا قيمة، فهو غائبٌ عن السُّلوكِ الحسن، ودماثة الأخلاق.
وقوله: ﴿ جَمَعَ مَالًا ﴾: قرئتْ بالتشديد ﴿ جَمَّعَ ﴾ على شاكلةِ ما بعدها ﴿ عَدَّدَهُ ﴾، وقُرئ ما بعدها بالتخفيف ليشاكل ﴿ جَمَعَ ﴾، فجمَعَ بالتخفيفِ في الميم يصلح للقليلِ والكثير، وتنكير ﴿ مَالًا ﴾ ليدلَّ على شمولِ المال، ويبرز حيرة جامع المال، وتتصور جمعه من هنا ومن هنا، على اختلافِ نوعه ومصدره.
﴿ وَعَدَّدَهُ ﴾ بتشديدِ الدال للمبالغة والتكثير، فهو كثيرُ التعداد والنظر فيه مرةً بعد أخرى، صباحًا ومساءً، ظهرًا وعصرًا، فهو إبانة عن كثرةِ المال، والحيرة والانشغال به، وقد يُشارُ بالمالِ إلى قومه وأنصاره من قولهم: فلان ذو عَدَدٍ وعُدَد؛ إذا كان له عددٌ وافر من الأنصارِ والأهل، وتعدادُ المال كناية عن البخلِ، ومنعه عن مستحقيه، وعدم إنفاقه في وجوهِه الصحيحة.
وقد أشار الطبري إلى أنَّ جمعَه يعني عدم إنفاقه في سبيلِ الله، وعدم تأدية حقِّ الله فيه، إنما يقتصرُ على حفظه ورعايته ليزداد، وفيها كذلك كناية عن الحرصِ وتعب القلب، وإتعاب الجسد والفكر وإجهاد الذهن في الصفقات؛ ربحًا وخسارة، وذهابًا وانتقالاً، وكأنه بهذه الآيةِ يبرزُ السَّببَ في هذا الهمز، وذاك اللمز، فصلتُها بما قبلها وعلاقتها أنها جملةٌ سببية وعلاقة أجليَّة، وكأنَّ إعجابَه بما جمع من مالٍ كثير متنوع في عقارات وشركات ومؤسسات وأعمال ضخام، أوصلَهُ إلى أنه أمسى صاحبَ فضلٍ على النَّاس، وكلمةٍ مسموعة، يسيِّرهم بمالِه، فهم بين يديه خدم، يسمعون ولا يتكلمون، وينفذون ولا يعترضون، فهو لأجلِ ماله يستقصر غيره هامزًا لامزًا، قد غدا شأنه التنقص والاحتقار، ودأبه الازدراء والاستصغار، وحياته السخرية والتعالي.
• ﴿ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ ﴾ [الهمزة: 3]:
جملةٌ فعلية ذات فعل مضارع يفيدُ الظَّنَّ والشك، فهو ذو تفكيرٍ خاطئ ونظرة مريضة، ولا يمتلكُ المعاييرَ الصحيحة لفنِّ التعامل، حيث أعماه المال، حتى غيَّر ضوابطَ الحياةِ وسنن الوجود في أنَّ المال زينة، وليس قيمة يُحتكمُ إليها، فهو كناية عن ضيقِ أُفقِه، واعوجاج فهمه، وانحدار عقله، وعدم امتلاكه لسلامةِ الرأي، وفيه كنايةٌ كذلك عن صفةٍ هي جهله وغفلته، وفي المال استعارةٌ مكنية؛ حيث شبهه بإنسانٍ يمكن أن يجعلَه في مأْمنٍ من الموت، ويكتب له الخلود، لكن ذلك خرج مخرجَ الشك والظن، إمعانًا في بيان قلة فهمه، وانعدام عقله.
د. جمال عبدالعزيز أحمد