المتأمل في السيرة النبوية والمتتبع للتاريخ يدرك مدى غدر اليهود وخيانتهم وشدة عدائهم للإسلام والمسلمين، وتلك حقيقة تاريخية صدَّقَّها الواقع إلى يومنا هذا، وقد وصفهم الله بقوله: {
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} (النساء:155).
ومن المعلوم من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعد هجرته للمدينة المنورة وادع اليهود فيها، وعاهدهم بميثاق بين فيه ما لهم من الحقوق وما عليهم من الواجبات، وكان من بين بنود ذلك الميثاق: أن للمسلمين دينهم، ولليهود دينهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. وقد التزم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بهذا العهد والميثاق، لأن من دينهم وشيمتهم الوفاء والأمانة، ولكن اليهود ـ كعادتهم ـ نقضوا العهد قبيلة قبيلة، ومن ذلك ما حدث مع يهود بني النضير، والذي كان من أهميته أن تحدث عنه القرآن الكريم في سورة كاملة، وهي سورة الحشر، حتى سمَّى
عبد الله بن عباس رضي الله عنه سورة الحشر بسورة بني النضير، فعن
سعيد بن جبير رضي الله عنه قال: قلت
لابن عباس رضي الله عنه: (سورة الحشر، قال: قل سورة بني النضير) رواه
البخاري. وقال
ابن كثير في تفسيره لسورة الحشر: "كان
ابن عباس يقول: سورة بني النضير".
وقد بينت سورة الحشر أحداث هذه الغزوة، وفصّلت القول فيها، ووصف الله فيها طرد اليهود، وفضح مسلك المنافقين، وبين أحكام الفَيء، وأثنى على المهاجرين والأنصار، وبين جواز القطع والحرق في أرض العدو للمصالح الحربية، وأن ذلك ليس من الفساد في الأرض، وأوصي المؤمنين بالتزام التقوى والاستعداد للآخرة، ثم ختمها بالثناء على نفسه وبيان أسمائه وصفاته، وهكذا كان المجتمع المسلم يتربى على التوحيد، وتعظيم منهج الله، والاستعداد ليوم القيامة من خلال القرآن الكريم وأحداث السيرة النبوية المشرفة، وقد قال الله تعالى في بداية سورة الحشر: {
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} (الحشر:1-2).
تاريخ غزوة بني النضير
يرى المحققون من المؤرخين أن
غزوة بني
النضير كانت بعد
غزوة أُحُد في ربيع الأول من السنة الرابعة من الهجرة، وقد رد
ابن القيم في كتابه "زاد المعاد" على من زعم أن
غزوة بني
النضير كانت بعد بدر بستة أشهر بقوله: "وزعم
محمد بن شهاب الزهري أن
غزوة بني
النضير كانت بعد بدر بستة أشهر، وهذا وَهْم منه، أو غلط عليه، بل الذي لا شك فيه: أنها بعد أحُدٍ، والذي كانت بعد بدر بستة أشهر، هي
غزوة بني قينقاع، وقريظة بعد الخندق، وخيبر بعد الحديبية". وقال
ابن العربي: "والصحيح أنها بعد أُحُد"، وإلى هذا الرأي ذهب
ابن كثير وغيره.
سبب إجلاء يهود بني النضير عن المدينة المنورة
المشهور في كتب السيرة النبوية أن سبب إجلاء يهود بني
النضير هو تآمرهم على قتل النبي صلى الله عليه وسلم لمّا جاءهم يستعينهم في دية القتيلين من
بني عامر، اللذين قتلهما
عمرو بن أمية الضمري،فقالوا: نعم يا
أبا القاسم نعينك على ما أحببت، ثم خلا بعضهم ببعض، فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه -ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد-، فَمَنْ رجل يعلو على هذا البيت، فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه؟ فانتدب لذلك
عمرو بن جحاش بن كعب،فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم.."، لكن الحديث مرسل، وأورده الشيخ
الألباني في "السلسلة الضعيفة".
وقد جاء سبب إجلائهم بسند صحيح متصل، كما قال الحافظ
ابن حجر: "وروى
ابن مردويه قصة بني
النضير بإسناد صحيح إلى
مَعْمر عن
الزهري قال: أخبرني
عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: كتب كفار قريش إلى
عبد الله بن أُبيّ وغيره ممن يعبد الأوثان قبل بدر يهددونهم بإيوائهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويتوعدونهم أن يغزوهم بجميع العرب، فهمّ
ابن أُبيّ ومن معه بقتال المسلمين، فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما كادكم أحد بمثل ما كادتكم قريش، يريدون أن تلقوا بأسكم بينكم، فلما سمعوا ذلك عرفوا الحق فتفرقوا، فلما كانت وقعة بدر كتب كفار قريش بعدها إلى اليهود: إنكم أهل الحلقة (السلاح) والحصون، يتهددونهم، فأجمع بنو
النضير على الغدر، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: اُخرج إلينا في ثلاثة من أصحابك ويلقاك ثلاثة من علمائنا، فإن آمنوا بك اتبعناك، ففعل، فاشتمل اليهود الثلاثة على الخناجر، فأرسلت امرأة من بني
النضير إلى أخٍ لها من الأنصار مسلم تخبره بأمر بني النضير، فأخبر أخوها النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يصل إليهم، فرجع، وصبّحهم بالكتائب فحصرهم يومه، ثم عدا على بني قريظة فحاصرهم فعاهدوه، فانصرف عنهم إلى بني النضير، فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أن لهم ما حملت الإبل إلا السلاح، فاحتملوا حتى أبواب بيوتهم، فكانوا يخربون بيوتهم بأيديهم فيهدمونها، ويحملون ما يوافقهم من خشبها، وكان جلاؤهم ذلك أول حشر الناس إلى الشام".. قال
ابن حجر: "فهذا أقوى مما ذكر
ابن إسحاق من أنّ سبب
غزوة بني
النضير طلبه صلى الله عليه وسلم أن يعينوه في دية الرجلين، لكن وافق
ابن إسحاق جُلّ أهل المغازي، فالله أعلم".
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل
محمد بن مسلمة رضي الله عنه إلى يهود بني النضير، يخبرهم بأن يخرجوا من المدينة ولا يساكنوا المسلمين فيها بسبب غدرهم، فتأهبوا للخروج، ولكن المنافقين تدخلوا، وأخبروهم أنهم معهم ضد المسلمين، وأرسل إليهم
عبد الله بن أبي بن سلول من يقول لهم: "اثبتوا وتمنعوا، وإن قوتلتم قاتلنا معكم". فاستقر رأيهم على المناورة، وطمع رئيسهم
حيي بن أخطب فيما قاله رأس المنافقين، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك .. وفي ذلك يقول الله تعالى: {
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (الحشر:11). فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم فسارعوا إلى حصونهم، واحتموا بها، وأخذوا يرمون المسلمين بالنبل والحجارة، وكانت نخيلهم وبساتينهم عوناً لهم في ذلك، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع بعضها وتحريقها، فنزل قول الله تعالى مُصَوِّباً ما فعله النبي صلى الله عليه سلم: {
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} (الحشر:5).
لم يطل حصار المسلمين ليهود بني
النضير وهم في حصونهم طويلاً، فقد دام ست ليال فقط، وقيل: خمس عشرة ليلة، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فنزلوا على الجلاء (الخروج)، ووافق النبي صلى الله عليه وسلم على أن يخرجوا منها بنفوسهم وذراريهم، وأنّ لهم ما حملت الإبل إلا السلاح، ووافقوا على ذلك.. ولحقدهم قاموا بتخريب بيوتهم بأيديهم، ليحملوا معهم الأبواب والشبابيك والجذوع حتى لا يأخذها المسلمون، ثم حملوا النساء والصبيان على ستمائة بعير، وأسلم منهم رجلان فقط، وذهبت طائفة منهم إلى الشام، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاحهم، واستولى على أرضهم وديارهم وأموالهم، وفي ذلك يقول الله تعالى: {
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} (الحشر: 2).
إن دراسة السيرة النبوية تساعد على فهم القرآن الكريم وتذوق روحه ومقاصده، وتبين أسباب نزول الكثير من الآيات القرآنية، كتلك الآيات التي تتكلم عن الغزوات في سورة آل عمران، والتوبة، والأحزاب، والفتح،
وسورة الحشرالتي سمّاها
عبد الله بن عباس رضي الله عنه: "سورة بني النضير".