الجواب :
الحمد لله
أولا :
ما ذكره الكاتب من أنه لم يكن هناك حاجز بين جماعة
النساء والرجال في المسجد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فهذا صحيح .
لكن مع هذا أرشد الشرع إلى تحقيق المباعدة بين
النساء والرجال في المسجد ومنع حدوث الاختلاط بينهم ، ومما يؤصل هذا :
عن أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ ، وَمَكَثَ يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ يَقُومَ " ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : " فَأُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ مُكْثَهُ لِكَيْ يَنْفُذَ النِّسَاءُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُنَّ مَنِ انْصَرَفَ مِنَ القَوْمِ " رواه البخاري (837) .
وعنها أيضا : " أَنَّ النِّسَاءَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنَّ إِذَا سَلَّمْنَ مِنَ المَكْتُوبَةِ ، قُمْنَ وَثَبَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ صَلَّى مِنَ الرِّجَالِ مَا شَاءَ اللَّهُ ، فَإِذَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ الرِّجَالُ " رواه البخاري (866) .
قال ابن حجر رحمه الله تعالى :
" وفي الحديث مراعاة الإمام أحوال المأمومين ؛ والاحتياط في اجتناب ما قد يفضي إلى المحذور ، وفيه اجتناب مواضع التهم ، وكراهة مخالطة
الرجال للنساء في الطرقات ؛ فضلا عن البيوت " انتهى من " فتح الباري " (2 / 336) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا ، وَشَرُّهَا آخِرُهَا ، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا ، وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا ) رواه مسلم (440) .
قال النووي رحمه الله تعالى :
" أما صفوف
النساء فالمراد بالحديث صفوف
النساء اللواتي يصلين مع
الرجال ... وإنما فضل آخر صفوف
النساء الحاضرات مع
الرجال لبعدهن من مخالطة
الرجال ورؤيتهم وتعلق القلب بهم عند رؤية حركاتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك وذم أول صفوفهن لعكس ذلك والله أعلم " .
انتهى من " شرح صحيح مسلم " (4 / 159 – 160) .
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لَوْ تَرَكْنَا هَذَا الْبَابَ لِلنِّسَاءِ ) ، قَالَ نَافِعٌ : " فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ ابْنُ عُمَرَ ، حَتَّى مَاتَ " رواه أبو داود (462) تحت باب " بَابٌ فِي اعْتِزَالِ النِّسَاءِ فِي الْمَسَاجِدِ عَنِ الرِّجَالِ " ، وصححه الألباني في " صحيح سنن أبي داود " (2 / 360) .
ومن المقرر أن هذه الأحكام إنما شرعت من باب سد ذرائع الفتنة ، كما أشار إليه الحافظ ابن حجر في كلامه السابق ، والذرائع تختلف قوة وضعفا من زمن إلى آخر ، ومن مجتمع إلى آخر ، ولهذا فإن طرق سدّها قد تختلف باختلاف قوة هذه الذرائع وضعفها .
ومما يشير إلى هذا قول عائشة رضي الله عنها : " لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسْجِدَ ، كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ " رواه البخاري (869) ، ومسلم (445) واللفظ له .
قال ابن رجب رحمه الله تعالى :
" تشير عائشةُ رضي الله عنها إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرخص في بعض ما يرخص فيه ، حيث لم يكن في زمنه فساد ، ثم يطرأ الفساد ويحدث بعده ، فلو أدرك ما حدث بعده ، لما استمر على الرخصة ، بل نهى عنه ؛ فإنه إنما يأمرُ بالصلاح ، وينهى عن الفساد .
وشبيهٌ بهذا: ما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وعهد أبي بكر ، وعمر ، من خروج الإماء إلى الأسواق بغير خمار ، حتى كان عمر يضرب الأمه إذا رآها منتقبةً ، أو مستترة ، وذلك لغلبة السلامه في ذلك الزمان ، ثم زال ذلك ، وظهر الفساد وانتشر ، فلا يرخص حينئذٍ فيما كانوا يرخصون فيه " انتهى من " فتح الباري " (8 / 41) .
فسلامة قلوب الصحابة رضي الله عنهم ، وقوة إيمانهم ، وخوفهم من الله ، ثم قيام سلطان الشرع من وراء ذلك ، يحذره أهل الفساد والريب كل ذلك كان يسمح بمثل ذلك ؛ حيث لا يترتب عليه مفسدة ، أما بعدهم فالواجب منع المفسدة ، ولو كان ذلك بمنع خروج
النساء إلى المساجد من الأصل ، كما قالت عائشة رضي الله عنها .
فعدم وجود حاجز في المسجد بين
الرجال والنساء في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن سببه عدم مشروعية مثل هذا الحاجز ، وإنما سببه عدم الحاجة إليه ، فإذا وجدت الحاجة بعد ذلك كان وجوده مشروعا ، بحسب الحال .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
"
النساء في عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصلين ، وليس بينهن وبين
الرجال حاجز.
ولكن النبي صلى عليه وعلى آله وسلم ندب إلى شيئين : الشيء الأول: أنه قال: ( بيوتهن خير لهن ) ، مع سلامة الناس في ذلك الوقت، فالصحابة هم خير القرون ، ومع ذلك قال: ( وبيوتهن خير لهن ) ؛ وهذا يعني أن صلاة المرأة في بيتها أفضل.
ثانياً: أنه قال: ( خير صفوف
النساء آخرها وشرها أولها ) ؛ وهذا يدل على أن الأفضل أن تبتعد المرأة عن مخالطة الرجل ، هذه واحدة .
أما أنه ليس بينهما من حاجز، فهل المساجد في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام كمساجدنا اليوم في الإضاءة والإنارة ؟ لا ، وهل نساء الصحابة كنساء اليوم؟ لا " .
انتهى من " لقاء الباب المفتوح " (218 / 22 بترقيم الشاملة) .
وبهذا يظهر أن إقامة فاصل بين
النساء والرجال في المسجد ، عند وجود الحاجة الداعية إليه : ليس من البدع ؛ بل هو من باب المصالح المرسلة التي شهد صنيع الشارع ، وتصرفاته ، باعتبار أصلها .
ثانيا :
أما صلاة
النساء في المسجد في غرفة منفصلة عن مكان
الرجال ، وكذلك لو كانت في الطابق الثاني – مثلا – فلا بأس بذلك ، وتحصل المتابعة للإمام بسماع صوته عن طريق مكبرات الصوت .
قال النووي رحمه الله تعالى :
" يشترط لصحة الاقتداء : علم المأموم بانتقالات الإمام ؛ سواء صليا في المسجد أو في غيره ، أو أحدهما فيه والآخر في غيره . وهذا مجمع عليه .
قال أصحابنا : ويحصل له العلم بذلك : بسماع الإمام ، أو من خلفه ، أو مشاهدة فعله ، أو فعل من خلفه .
ونقلوا الإجماع في جواز اعتماد كل واحد من هذه الأمور" انتهى من " المجموع " (4 / 309) .
ويستدل لذلك بحديث عَائِشَةَ ، قَالَتْ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فِي حُجْرَتِهِ ، وَجِدَارُ الحُجْرَةِ قَصِيرٌ ، فَرَأَى النَّاسُ شَخْصَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فَقَامَ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلاَتِهِ ، فَأَصْبَحُوا فَتَحَدَّثُوا بِذَلِكَ ... " .
وقد رواه البخاري (729) تحت باب : (باب : إذا كانَ بينَ الإِمَامِ وَبَيْنَ القَوْمِ حَائِطٌ ، أَوْ سُتْرَةٌ . وقال الحسنُ : لا بأس أن تصلِّي وبينكَ وبينهُ نهر. وقال أبو مجلزٍ: يأتمُّ بالإمامِ - وإنْ كانَ بينهما طَريقٌ أو جدارٌ - إذا سمعَ تكبيرَ الإمامِ ) .
ففي هذه الحادثة : لم ير الصحابة شخص النبي صلى الله عليه وسلم في جميع الصلاة ، بل الرؤية كانت في حال القيام فقط ، لوجود الجدار القصير الحائل بينهم .
قال ابن رجب رحمه الله تعالى :
" مراد البخاري بهذا الباب : أنه يجوز اقتداء المأموم بالإمام ، وإن كان بينهما طريق أو نهر ، أو كان بينهما جدار يمنع المأموم من رؤية إمامه ؛ إذا سمع تكبيره " .
انتهى من "فتح الباري " (6 / 297) .
وقد سُئل الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى:
" لدينا مسجد مكون من طابقين ، الدور العلوي للرجال والدور السفلي للنساء ، وتقوم
النساء بالصلاة فيه جماعة مع
الرجال ، وهن في الدور السفلي ، والرجال في الدور العلوي ، ولا ترى
النساء الإمام ، ولا حتى صفوف
الرجال ، ولكن يسمعن التكبير من خلال ( الميكرفون ) فما حكم الصلاة في هذه الحالة ؟
فأجاب : ما دام الحال ما ذكر فصلاة الجميع صحيحة ، لكونهم جميعا في المسجد ، والاقتداء ممكن بسبب سماع صوت الإمام بواسطة المكبر ، وهذا هو الأصح من قولي العلماء .
وإنما الخلاف ذو الأهمية : فيما إذا كان بعض المأمومين خارج المسجد ، ولا يرى الإمام ، ولا المأمومين، والله ولي التوفيق " انتهى من "مجموع فتاوى ابن باز" (12 / 213 – 214) .
وسُئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
" ما حكم صلاة
النساء في المساجد التي لا يرين فيها الإمام ولا المأمومين ، وإنما يسمعن الصوت فقط ؟
فأجاب : يجوز للمرأة ، وللرجل أيضاَ : أن يصلي مع الجماعة في المسجد ، وإن لم ير الإمام ولا المأمومين ، إذا أمكن الاقتداء ، فإذا كان الصوت يبلغ
النساء في مكانهن من المسجد ، ويمكنهن أن يقتدين بالإمام : فإنه يصح أن يصلين الجماعة مع الإمام ؛ لأن المكان واحد ، والاقتداء ممكن ، سواء كان عن طريق مكبر الصوت ، أو عن طريق مباشر بصوت الإمام نفسه ، أو بصوت المبلغ عنه ، ولا يضر إذا كن لا يرين الإمام ولا المأمومين " .
انتهى من " مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين " (15/ 211) .
والله أعلم .
lh p;l lwgdhj hgkshx hglktwgm uk hgv[hg fthwg ? lsldhj hglktwgm hgvphg hgkshx fthwg p;l