تقبل المسلمون في الاندلس تحول الامارة لديهم الى خلافة مستقلة بطيبة خاطر . ويعيد المؤرخون هذا الموقف الى ثلاثة عوامل وتطورات حدثت في قلب العالم العربي واطرافه ، سهلّت لعبد الرحمن الثالث اعلان الخلافة في قرطبة سنة 929 م ( 316 هـ ). ومع ان الخلافة ، كما فهمها المسلمون آنذاك وكما عرّفها فقهاؤهم بأنها رياسة عامة في أمور الدين والدنيا نيابة عن النبي وبالتالي لا يجوز ان يتولى هذا الامر أكثر من خليفة واحد ، الا ان اموراً ادت بعد سقوط خلافة الامويين في دمشق وقيام حكم العباسيين الى تزعزع وحدة الامة، فظهرت في الاندلس مفاهيم جديدة للخلافة ونظرة مستجدة لنظام الحكم . فالانجازات العسكرية والتنظيمية التي حققها الامير عبد الرحمن الثالث جعلته يبدو في اعين الاندلسيين وكأنه الضمانة الوحيدة لاستمرار وجود دولتهم وتعزيز مكانتهم . وربما كان هذا التطور الاول الذي دفع باتجاه قيام خلافة مستقلة في قرطبة . فالناس على ما بدا لدى المؤرخين هم الذين رغبوا في رفع الامير الى سدة الخلافة .
الامر الثاني الذي عزز قيام هذه الخلافة المستقلة هو ان العلماء والفقهاء المسلمين ما عادوا يصرون على ضرورة مركزية الخلافة بعد ان اتسعت رقعة ارض الاسلام وامتدادها الواسع في القارات الثلاث المعروفة آنذاك . فقد أدركوا ان المشاكل التي يواجهونها الان قد اصبحت اكثر واكبر من ان تحلها او تضبطها سلطة واحدة مركزية .
العامل الثالث الذي كان له تأثيره الافعل والابعد كان سقوط دولة الامويين في دمشق وقيام دولة بني عباس في بغداد وما رافق هذا الانتقال من طغيان الفرس ، عنصراً وفكراً وثقافة على الحياة العامة ، وبصورة خاصة على السياسة . فقد فقدت الخلافة العباسية الطابع القرشي الذي كانت تتسلح به الخلافة الاموية في المشرق والمغرب . ثم ان العناصر الموالية للترك بدأت تتسلط على مراكز القوة وتتحكم بسياسة الخلفاء بعد المعتصم ، مما افقد كرسي الخلافة قدسيته وهيبته . فمنذ ذلك الوقت ما عاد الخليفة العباسي يقدر ان يجسّد وحدة العالم الاسلامي وتضامن المسلمين في ظل دولة واحدة موحدة . وذهب بعض المؤرخين الى القول إن معاني الخلافة قد ذهبت ولم يبق الا إسمها وصار الامر ملكاً بحتاً.
هذه العوامل الثلاثة سهلت قيام الخلافة الاموية المستقلة في الاندلس وعاصمتها قرطبة . اما ما شدد من عزيمتها وقدم لها الدفع الكبير كان قيام الفاطميين باعلان خلافة شيعية في بلاد المغرب عاصمتها القيروان . فالاندلسيون كانوا شديدي التمسك بالمذهب السني ، متعلقين بتقاليد واعراف ورثوها عن الدولة الاموية في دمشق . لذلك رأوا في قيام هذه الخلافة في القيروان تهديداً لمذهبهم ، اولاً ، ولعلاقتهم وتواصلهم مع المشرق ثانياً . فقد شعروا ولأول مرة انهم أصبحوا معزولين عن سنة الشرق .
كان للعامل الشيعي هذا ، المتمثل بالفاطميين ، تأثيره الكبير في المغرب والاندلس . مؤسس الفاطميين في المغرب كان عبد الله الاسماعيلي الذي حلّ في الشمال الافريقي سنة 280 هـ. ونزل في ضيافة وحماية قبائل كتامة البربرية المنتشرة في الاراضي الواقعة بين منحدرات جبال أوراس والشواطيء الشرقية للجزائر . وتعرف هذه المنطقة الان باسم بلاد القبيل . وكانت هذه القبائل ، ومعها قبائل بربرية اخرى ، قد سبق ان اعتنقت المذهب الشيعي الاسماعيلي . لذلك تمكن ابو عبد الله من الاعتماد عليها لارساء اسس دولة مستقلة ، فانطلق في حملات عسكرية لاخضاع الدويلات الصغيرة التي كانت قد نشأت بعد سقوط الحكم المركزي بدمشق . ومن هذه الدويلات : دولة الاغالبة في المغرب الادنى وعاصمتها القيروان ، ودولة الرستميين في المغرب الاوسط وعاصمتها مدينة تاهرت ، والادارسة في مدينة فاس . أما في الجنوب ، فكانت تقوم دولة بني واسول او الدولة المدرارية وعاصمتها مدينة سجلماسة .
إتخذ ابو عبد الله الاسماعيلي منطقة قسنطينة منطلقاً لتحركه العسكري وخرج منها مع اتباعه من بربر كتامة ليدخل في اعماق دولة الاغالبة. فدخل سنة 909 م عاصمتهم القيروان وازال دولتهم من الخريطة السياسية للعالم الاسلامي . ومن هناك هاجم دولة الرستميين فقضى عليها واستولى على عاصمتها تاهرت . ثم عاد الى القيروان وأعلن نفسه سنة 909 خليفة وارسل الرسل الى جميع مناطق الشمال الافريقي وجزيرة صقلية ليعلنوا للناس قيام الدولة الفاطمية والخلافة الشيعية الجديدة .
كان عبد الرحمن يراقب هذه التطورات من عاصمته قرطبة بكثير من الاهتمام والخوف والحذر . فقيام دولة شيعية في الشمال الافريقي سيؤسس لصراع دموي رهيب وسيقف حاجزاً بينه وبين الشرق . فعمد على الفور الى تجميع قواته العسكرية ، وبنوع خاص ، القوات البحرية في الجنوب الاسباني ، وسعي في الوقت نفسه الى إقامة تحالفات مع سكان المغرب الذين كانوا في غالبيتهم يدينون بالمذهب المالكي السني . وتمكن بفضل هذه التحالفات من ارسال قواته بامان الى المغرب واحتلال مدينة سبتة واقامة قاعدة للحكم الاموي فيها. ومنها وسع اتصالاته مع القبائل البربرية الذين كانوا على ولاء سابق لدولة الاغالبة ، فانضموا اليه . ومن هناك توسع شرقاً لاخضاع الادارسة وسواهم .
إمتد حكم عبد الرحمن حوالى خمسين سنة ، ثبت خلالها ركائز الدولة الاندلسية واعطاها فترة طويلة من الاستقرار السياسي مما أثمر نهضة عمرانية واقتصادية ما عرفت لها مثيلاً من قبل، حيث ازدهرت الصناعة والتجارة والزراعة وعمرت خزانة الدولة في قرطبة بالاموال بعد ان كانت تشكو فراغاً مزمناً .
نمت قرطبة خلال هذه الفترة بصورة مدهشة ، وبلغ تعداد سكانها حوالى نصف مليون نسمة ، وكثرت حولها الضواحي حتى وصلت الى اشبيلية وجيان . واقام الخليفة مدينة الزهراءلتكون مركز اقامته وحكمه .
تولى الحكم بعد الخليفة عبد الرحمن الناصر ، الذي توفي سنة 961 م ( 350 هـ ) ابنه وولي عهده المستنصر . جاء بعده هشام الثاني المؤيد بالله سنة 976م ( 366 هـ ) الذي انفجرت في ايام خلافته جميع المتناقضات العنصرية والحساسيات القبلية والانقسامات السياسية والطبقية . وبوصول المهدي الى سدة الخلافة بدأت مرحلة من الفوضى والاضطراب امتدت على مدى ثلاثة وعشرين سنة واطاحت في النهاية بالدولة الاموية بالاندلس .