وفي شهر صفر من السنة الحادية عشرة خرج النبي إلى أُحد، فصلى على الشهداء كالمودع للأحياء والأموات، ثم انصرف.
وفي يوم التاسع والعشرين من شهر صفر. قال رسول الله لمولاة أبي مويهبة :
يا أبا مويهبة، إني قد أُمرت أن استغفر لأهل البقيع، فانطلق معي.
فلما وقفا بين أظهرهم قال :
السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهنىء لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، الآخرة شرّ من الأولى.
ثم ألتفت على مولاه وقال :
يا أبا مويهبة، إني قد أُوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة.
فما كاد ينتهي من قوله حتى بادره أبا مويهبة محرضاً له على الدنيا قائلاً :
بأبي أنت وأمي، فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة.
ولكن مراد رسول الله من هذا الدنيا لا يزيد عن تبليغ رسالة ربه ثم تركها. فقال رسول الله :
لا والله يا أبا مويهبة، لقد اخترت لقاء ربي والجنة[1].
ثم استغفر لأهل البقيع.
فلما رجع -وهو في الطريق- أخذه صداع في رأسه، واتقدت الحرارة، حتى إنهم كانوا يجدون سورتها فوق العصابة التي تعصب بها رأسه.
فلما دخل بيته وجد عائشة رضي الله عنها قد ألم بها وجع في رأسها وتقول :
وارأساه.
فقال لها رسول الله :
أنا والله يا عائشة وارأساه.
فحاول الرسول أن يُلمّح لعائشة أن إذا مات أن تقوم بتغسيله وتكفينه فقال :
ما ضرك لو مُتِّ قبلي، فقمتُ عليك وكفنتك، وصليت عليك ودفنتك؟
ولكنها رضي الله عنها لم تفهم مراده فأخذت تجاذبه الحديث في موضوع آخر فقالت :
والله لكأني بك، لو فعلت ذلك، لقد رجعت إلى بيتي، فأعرست فيه ببعض نسائك[2].
فإما أن تكون غيرة النساء حالت بين ذلك، وإما أنها حاولت أن تخفف وطأة الألم عليه لأنه أخبرها بأن ما يعانيه من شدة الألم أعظم مما تعانيه هي كما في قوله : أنا والله يا عائشة وارأساه.. فما كان منه بعد أن استمع إلى مداعبة عائشة إلا أن تبسم من قولها.
وقد صلى النبي بالناس وهو مريض أحد عشر يوماً، وجميع أيام المرض كانت ثلاثة أو أربعة عشر يوماً.
* * *
كان الرسول القدوة الحسنة والنموذج الأمثل في التعليمات والوصايا التي علّم به الأمة، ومن ذلك وصيته للنساء فعندما ثقل به المرض جعل يسأل أزواجه:
أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟
وكان المراد من سؤاله هذا انتظار يوم عائشة، لأنه كان يحبها أكثر من غيرها. وهذه المحبة قد عذره الله عليها، ولهذا قال ذات يوم :
اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك[3].
أما العدل بين الزوجات فلم يتهاون به .
وكان زوجاته يعرفن محبته لعائشة فأذَنّ له أن يكون حيث شاء، فانتقل إلى عائشة، يمشي بين الفضل بن عباس وعلى بن أبي طالب، عاصباً رأسه تخط قدماه على الأرض حتى دخل بيتها، فقضى عندها آخر أسبوع من حياته[4].
وكان الرسول إذا اشتكى في أيام صحته نفث على نفسه بالمعوذات ومسح بيده مكان الألم. فلما اشتكى في وجعه الذي توفي فيه لم يتمكن -بأبي هو وأمي- من مداوة نفسه. فكانت عائشة رضي الله عنها تقرأ بالمعوذات والأدعية التي حفظتها من رسول الله ، ثم تنفث وتمسح بيده على جسده.
إن تخفيف الآلام والمتاعب من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لم يكن مقصوراً على نبينا فحسب. بل كان على سائر المسلمين. ففي ذات ليله عندما سقطت قلادتها وتعذر وجود الماء. وأصبح رسول الله ليلقطها، فأصبح الناس ليس معهم ماء، فأنزل الله {فتيمموا صعيداً طيباً} [النساء: 42]. فكان ذلك من سببها[5].
وفي يوم الأربعاء قبل خمسة أيام من الوفاة، اتقدت حرارة العلة في بدنه، فاشتد به الوجع وغمي، ثم أفاق فقال:
أهريقوا عليّ من سبع قرب لم تُحلل أوكيتهن، لعلي أعهد إلى الناس[6].
فأجلسوه في مخضب لحفصة بنت عمر، وصبوا عليه الماء، حتى طفق يقول :
حسبكم حسبكم[7].
لقد حرص نبينا على أن يدلنا على كل خير حتى وهو يصارع آلام المرض، بأبي هو وأمي. لقد كان بإمكانه أن يقول : أهريقوا عليّ ماء. فيسارع من حوله بإحضار الماء وصبه عليه. هذا الماء الذي قال الله فيه {وجعلنا من الماء كل شيء حي} [الأنبياء:30] . ولكن أراد أن ينتفع الناس من بعده، فحدد مواصفات هذا الماء الذي يخفف الآلام. أولاً أنها سبع قرب تبركاً بهذا العدد كما في أحاديث الاستشفاء. ثانياً أن تلك القرب لم تُحلل أوكيتهن أي لا تذهب بركته بسبب توزيعه كما في حديث "يا رسول الله إنا نأكل ولا نشبع قال : فلعلكم تفترقون قالوا : نعم. قال فاجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله عليه يبارك لكم فيه"[8]. وثالثاً كما في رواية أخرى من آبار شتى[9] أي من مصادر متعدد وليست من مصدر واحد.
وبعد ذلك أحس بخفة ونشاط، فدخل المسجد -وهو معصوب الرأس- حتى جلس على المنبر، وخطب الناس -والناس مجتمعون حوله- فقال :
لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد[10].
* * *
وفي ذات يوم من أيام مرض رسول الله كان جماعة من الأنصار قد جلسوا يذكرون مجلس رسول الله منهم ويبكون، فمر عليهم أبو بكر والعباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما، فقالا : ما يبكيكم؟ قالوا : ذكرنا مجلس النبي منا. فدخل أبو بكر على رسول الله فأخبره.
وكان رسول الله يحب الأنصار، فهم الذين آووه ونصروه، وقدموا ما يملكون من مال وأنفس إلى الله. فلما سمع مقالة أبي بكر في الأنصار تناول حاشية برد وعصب بها رأسه، ثم تحامل على جسده المثقل بالمرض وخرج إلى الناس وصعد المنبر، وكان صعوده الأخير، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :
أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي وعيبتي[11]، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم[12].
وبينما رسول الله ينصح أمته ويدلهم على الخير ويحذرهم عن الشر، بدأ يخبرهم عن قُرب وفاته، فكان مما قال :
إن عبداً خيره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده.
فلما سمع أبو بكر هذه المقولة أغرورقت عيناه من الدمع وأجهش بالبكاء ثم قال :
فديناك بآبائنا وأمهاتنا.
فتعجب الصحابة من مقولة أبي بكر، إذ عبّر عن ذلك أبي سعيد الخدري حيث قال في نفسه :
ما يُبكي هذا الشيخ، إن يكن الله خيّر عبداً بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله؟.
ومع مرور الأيام عرف أبو سعيد الخدري الحكمة من بكاء أبي بكر إذ قال :
فكان رسول الله هو العبد، وكان أبو بكر أعلمنا[13].
فما كاد أبو بكر أن ينتهي من كلامه حتى بادره رسول الله قائلاً :
على رسلك يا أبا بكر.
ثم أشار إلى أصحابه وقال :
انظروا هذه الأبواب اللافظة في المسجد، فسدوها إلا بيت أبي بكر، فإني لا أعلم أحداً كان أفضل في الصحبة عندي يدا منه[14].
وإني لو كنت متخذاً من العباد خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً،ولكن صحبة وإخاء إيمان حتى يجمع الله بيننا عنده[15].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] السيرة النبوية لابن هشام، 4/642. مسند الإمام أحمد، 3/488،489.
[2] السيرة النبوية لابن هشام، 4/643.
[3] سنن أبي داود، رقم الحديث 1822.
[4] صحيح البخاري، 5/164.
[5] سير أعلام النبلاء، 2/180.
[6] صحيح البخاري، كتاب الوضوء،
[7] السيرة النبوية لابن هشام، 4/649.
[8] سنن ابن ماجة، رقم 3286.
[9] السيرة النبوية لابن هشام، /649.
[10] صحيح البخاري، 5/162.
[11] كرشي : أي مددي الذي استمد بهم. وعيبتي : أي جماعتي الذين أطلعهم على سري وأثق بهم وأعتمد عليهم. [لسان العرب لابن منظور، 12/69]
[12] صحبح البخاري، 4/273. السيرة النبوية لابن هشام، 4/649.
[13] صحيح البخاري، كتاب الصلاة، 137.
[14] السيرة النبوية لابن هشام، 4/649.
[15] السيرة النبوية لابن هشام، 4/650.