هل أنا على حق ..؟!
لعلك تفكر في تلك الكلمات قبل أن يجافيك النوم يوميًا، وبينما تنتظر
لحظات الأرق أن تنقضي يبدأ الضمير والعقل تحضيراتهما لعقد المحاكمة
وتقييم تصرفاتك اليومية، والشهرية، بل على مر السنوات. لحظات قاسية
لحظات معدودات قد تبدو أبدية بعدما يعلن العقل الواعي عن بداية جلسة الاستماع للمتهم
بالتقصير في حق ذاته، ليغدو الضمير بمثابة المحقق ووكيل النيابة الذي يجلد بكلماته الصارمة
واستنتاجاته الصارخة؛ حتى تجد نفسك وجهًا لوجه مع بعض الأسئلة الشهيرة: “هل أنا على حق؟
هل أجدت التصرف في هذه المواقف؟ لماذا لم أتقن فن الرد؟ كيف لم أتعلم من أخطائي السابقة؟”..
وغيرها الملايين من الأسئلة التي لا تنتهي مع ليلة يغيب فيها قمر الاستقرار والراحة الذهنية، وتتلبد فيها
سحب الدماغ بأوجاع ماضية، وذكريات آسرة، واستنتاجات قد يكون لا أساس لها من الصحة.
وبعد معاناة مهما بلغت مدتها الزمنية –فالثانية في تلك المحاكمة الصعبة قد تبدو سنوات
عجاف– وحتى يتسلل النوم إلى جفنيك، تكون أصبحت مذنبًا ومتهمًا، ونصّبت نفسك حكمًا
وقاضيًا على أفعالك الماضية، وأحداث لن تعود إلى الحاضر بأي شكل من الأشكال.
بعد ليلتك الأليمة التي كنت فيها المذنب، ووكيل النيابة، والقاضي معًا، فإنك
تبدأ التحضير ليوم جديد يضاف إلى مسيرتك الحياتية، وبالطبع سيكون محلًا
للنقاش في موعدك اليومي مع محكمتك الصارمة.
~~~~~~~~~~~~~~~~ تبريرات وتحليلات
الغريب في الأمر هو مواجهة عكس النموذج السابق ذكره على الإطلاق، فهناك من يعتبر نفسه
صاحب التصرفات السليمة في كل المواقف الحياتية عامة؛ هو لا يفلت من محاكمته اليومية
لكن وكيل النيابة فيها؛ أي الضمير، قرر أن يأخذ استراحة نفاق لحساب المتهم؛ وذلك لإثبات
براءته دون أدلة تُذكر، وتبرير تصرفاته مهما بلغت قسوتها.
لكن على النقيض تمامًا، تجد الشخصية صاحبة التبريرات كثيرة الحديث عن إنجازات النفس
أمام الآخرين؛ إذ إن ذلك الشخص قرر أن يعقد محاكمة علي على أرض الواقع، بالنقاش
مع كل المحيطين به، ونشر السلبية فيما بينهم، وإصدار الأحكام المتتالية عليهم.
ولا يكتفي بذلك فحسب؛ فهو يجد من كل حوار مخرجًا نحو حياته وعقد مقارنات
لا صحة لها، ولا جدوى منها؛ فقط حتى يُشعر نفسه بالرضا عنها. هل أنا على حق؟
وهنا، يجب العودة إلى السؤال المطروح “هل أنا على حق؟” فهو ليس من أهم الجُمل التي يتم
طرحها على النفس يوميًا، بقدر انتظار الإجابة بالإيجاب أو السلب؛ فإن كنت تعقد العزم
على تقييم ذاتك ومحاسبتها، فذلك هو السؤال الصحيح الذي يجب أن تتعرف فيه
على قدراتك في التعاطي مع كل شيء، والتعامل مع أنماط البشر كافة.
يمكن من خلال الإجابة عن سؤال “هل أنا على حق؟” أن تتعرّف على نفسك جيدًا فإن الإجابة لا تقبل حلًا ثالثًا بين نعم ولا، إلا أنها تقبل الشرح والتأويل والتعليل.
إن الحل الثالث بين “نعم” و”لا” هو البحث في ثنايا الموقف الماضي، ومحاسبة الذات
على ما تم فعله، أو لم يتم فعله، أو حتى ما لم يقدم على التفكير في فعله.
ومن خلال هذه التحليلات؛ يمكنك أن تتعرّف على نفسك جيدًا، وتبدأ عن طريقها طرح
الأسئلة السليمة التي تضعك على بداية درب تصحيح المسار، مثل: “هل أنا فعلًا
أكترث بما حدث؟”، “هل الماضي سيعود يوميًا؟”، “لماذا أفكر فيما تم نسيانه؟”
أو “كيف أتخطى تلك الذكريات؟”، أو السؤال الأهم الذي نطرحه: “هل أنا على حق؟”.
على ناحية أخرى؛ فإن الإجابة بالإيجاب تعطيك فرصة التبرير لموقفك وأفعالك
وذلك إن كنت مخطئًا بالطبع، أما الإجابة بالسلب فهي تعطيك فرصة العودة إلى تعديل
سلوكياتك؛ وذلك وفقًا لتأكيدات علماء النفس.
~~~~~~~~~~~~~~~~ القسوة في التقييم
إن العبرة بالسؤال “هل أنا على حق؟” لا تتمثل في إصدار الحكم النهائي
عليك في محكمتك التي أنت بطلها؛ فالإجابة عن هذا السؤال لن تعطيك راحة
البال التي تريدها؛ للتمتع بليلة نوم هادئة، وأحلام سعيدة.
إذًا؛ لمَ السؤال من البداية؟، إن وصلت إلى تلك المرحلة فأنت تعلم جيدًا أنك تعاني
من متلازمة التفكير المتواصل؛ الذي قد يمنعك من الاستمتاع بحياتك الطبيعية
لكنك وفي الوقت ذاته تعرف أن الطريق إلى تبني العقلية الإنسانية لا يأتي سوى من محاكمة
النفس، والتقييم الدائم للذات.
لن تكن الإجابة كافية لإخماد نيران التفكير المتأججة داخل عقلك، ولن تغنيك عن العودة
إلى الذكريات القديمة التي لا تفيد بشيء سوى جلب الكثير من الأوجاع.
وفي النهاية؛ قد يكون المغزى كله من سؤال “هل أنا على حق؟” لا يهدف إلى إعادة تقييمك
ووضعك على الدرب السليم فحسب؛ بل إنه رسالة يومية حتى لا تقسو على ذاتك؛ فإن أخطأت
بالأمس يمكنك أن تكون محقًا غدًا، وبالأخير: ما من إنسان يريد أن يكون مخطئًا، أليس كذلك؟
لذا؛ فإن الأسئلة التي يطرحها العقل لا يُقصد بها سرقة النوم من مقلتيك؛ لكنه يسعى
إلى إيضاح بقعة ضوء صغيرة بداخلك لاستكمال الحياة.