الحمد لله رب العالمين،
إله الأولين والآخرين، قيوم السماوات والأرضين،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
الملِك الحق المبين،
وأشهد أنّ محمَّداً عبده ورسوله الصادق الأمين،
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين،
وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً،
أما بعد:
فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ جل وعلا، وأن نقدمَ لأنفسِنا أعمالاً تبيضُ وجوهَنا يوم نلقى اللهَ، ﴿ وْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾
[الشعراء: 88، 89].
قبل نحو خمسين عامًا خرج عثمان دابو رحمه الله إلى البيت العتيق، مشيًا على قدميه مع أربعة من صحبة من قريته من جمهورية جامبيا إلى مكة قاطعين قارة أفريقيا من غربها إلى شرقها، لم يركبوا فيها إلا فترات يسيرة متقطعة على بعض الدواب، خرج الخمسة من دُورهم، وليس معهم إلا قوتٌ لا يكفيهم أكثر من أسبوع واحد فقط، والدافع الرئيس لذلك هو تحقيق أمر الله تعالى لهم بحج بيته العتيق، وأصابهم في طريقهم من المشقة والضيق والكرب ما الله به عليم؛ فكم من ليلة باتوا فيها على الجوع حتى كادوا يهلكون؟! وكم من ليلة طاردتهم السباع، وفارقهم لذيذ المنام؟! وكم من ليلة أحاط بهم الخوف من كل مكان؛ فقُطَّاع الطرق يعرضون للمسافرين في كل وادٍ؟!
كان الشوق للوصول إلى الحرمين الشريفين يحدوهم في كل أحوالهم، ويخفف عنهم آلام السفر ومشاقَ الطريق ومخاطره، مات ثلاثةٌ منهم في الطريق، كان آخرهم في عرض البحر، قال الشيخ عثمان: "لما مات صاحبُنا الثالث نزلني همٌّ شديد وغمٌّ عظيم، وكان ذلك أشد ما لاقيت في رحلتي؛ فقد كان أكثرَنا صبرًا وقوة، وخشيت أن أموت قبل أن أنعم بالوصول إلى المسجد الحرام، فكنت أحسب الأيامَ والساعاتِ على أحرِّ من الجمر.
فلما وصلنا إلى جُدةَ مرضت مرضًا شديدًا وخشيت أن أموت قبل أصل إلى مكة المكرمة، فأوصيت صاحبي أنني إذا مت أن يكفنني في إحرامي، ويقرَبني قدر طاقته إلى مكة، لعل الله أن يضاعف لي الأجر، ويتقبلني في الصالحين.
مكثنا في جدة أيامًا، ثم واصلنا طريقنا إلى مكة، كانت أنفاسي تتسارع والبِشْر يملأ وجهي، والشوق يهزني ويشدني، إلى أن وصلنا إلى المسجد الحرام"
وسكت الشيخ قليلًا.. وأخذ يكفكف عبراته، وأقسم بالله تعالى أنه لم ير لذة في حياته كتلك اللذة التي غمرت قلبه لمَّا رأى الكعبة المشرَّفة!
ثم قال: "لما رأيت الكعبة سجدت لله شكرًا، وأخذت أبكي من شدة الرهبة والهيبة كما يبكي الأطفال، فما أشرفه من بيت وأعظمه من مكان!
ثم تذكرت أصحابي الذين لم يتيسر لهم الوصول إلى المسجد الحرام، فحمدت الله تعالى على نعمته وفضله عليَّ، ثم سألته سبحانه أن يكتب خطواتهم وألا يحرمهم الأجر، وأن يجمعنا بهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر".
أيها الإخوة..
يَتَشَوَّقُ عِبادُ اللهِ الصَّالحونَ فِي هَذَا الوَقْتِ مِنْ كُلِّ عَامٍ إِلَى بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ لِأَدِاءِ الحَجِّ، وَتَتَقَطَّعُ قُلُوبُهُم حَسرَةً وَأَلَماً عَلَى فَوَاتِهِ.
عباد الله: وللحج فضائل كثيرة متنوعة نصت عليها الأحاديث منها:
أن الحاج يعود من ذنوبه كيومَ ولدته أُمه، كما: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" متفق عليه.
ومن فضائل الحج أنه أفضل الجهاد، عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل الأعمال، أفلا نجاهد؟ قال: (لا، لكن أفضل الجهاد حجّ مبرور" (رواه البخاري.
الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة "والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة". متفق عليه.
وقد ذكَر أهل العلم أنَّ الحج يجب فورًا على كلِّ مسلم عاقلٍ، بالغٍ حرٍّ مُستطيع للحج، يَملك الزاد والراحلة.
عباد الله ومع هذه الفضائل وهذه الأهمية إلا أننا نجد مِن أُمَّةِ الإِسلامِ مَن تَمُرُّ عَلَيهِ السُّنُونَ وَتَتَوَالى عَلَيهِ الأَعوَامُ وَلَمْ يَحُجَّ مَعَ قُدْرَتِهِ، وَكَأَنَّ الحَجَّ قَد فُرِضَ عَلَى غَيرِهِ، وَقَد عُلِمَ - أَيُّهَا الْمُسلِمُونَ - مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الحَجَّ رُكنٌ مِن أَركَانِ الإِسلامِ وَمَبَانِيهِ العِظَامِ، فيا مَن أنعَم الله عليه بالصحة والعافية، ورَغَد العيش وأَمْن الطريق، وتوفُّر وسائل السفر المريحة الآمنة - بادِر إلى حجِّ بيت الله الحرام، وأدِّ فرضك قبل أن يحجَّ عنك أقاربُك، إن اخترَمك المنون قبل الحجِّ الواجب، وأن تحجَّ بنفسك خيرٌ لك من أن يتصدَّق عليك أحدُ أقاربك بالحجِّ نيابةً عنك، فكم من مسلمٍ حبَسه جسده المريض عن الحج، واُضُطرَّ إلى استنابة غيره في حجِّ الفريضة.
هذا مع تيسُّر السُّبل، وسهولة السفر، وقِصَر المدَّة، ألَم يكن آباؤنا وأجدادنا يقضون شهرًا، أو أكثر في سفر الحج ذَهابًا وإيابًا؟ على ظهور الأبل؟
ولنتأمل الحُجَّاجُ الذين يَأتُونَ مِن أَقصَى الأَرضِ شَرقًا وَغَربًا وبعضَهَم يَبْقَى سَنَوَاتٍ وَهُوَ يجمَعُ مَالَهُ دِرهمًا دِرهَمًا وَفِلسًا فِلسًا، يَقتَطِعُها مِن قُوتِهِ وَقُوتِ أَهلِهِ وَأَبنَائِهِ حَتَّى يَجْمَعُ مَا يُعِينُهُ على أَدَاءِ هَذِهِ الفَرِيضَةِ العَظِيمَة.
إن البعض من الناس ربما ضرب الأرض طولاً وعرضاً ولم يدع مكاناً جميلاً في هذه الأرض إلا سافر إليه ووفر لهذه الأسفار ما يكفيها من أموال بطريق عجيبة.. ولم يفكر في آداء فريضة الحج!
أيها المؤمنون: ومما ينبغي تذكيره َأنه لا يَحِلُّ لِزَوْجٍ أَنْ يَمْنَعَ زَوْجَتَهُ مِنْ أَدَاءِ فَرْضِهَا، وَلاَ لِوَالِدٍ أَنْ يَمْنَعَ وَلَدَهُ مِنْ أَدَاءِ فَرْضِهِ؛ شُحًّا بِهِ، أَوْ خَوْفًا عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ الشَّفَقَةَ الحَقِيقِيَّةَ هِيَ فِي الخَوْفِ عَلَى الأَوْلَادِ مِنْ عُقُوبَةِ اللهِ تَعَالَى بِتَرْكِهِمْ فَرَائِضَهُ سُبْحَانَهُ، بَلِ الوَاجِبُ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَأْمُرَ زَوْجَتَهُ بِالحَجِّ، وَيَحُثَّهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالطَّاعَةِ، وَإِنْ رَافَقَهَا إِلَى الحَجِّ، أَوْ دَفَعَ نَفَقَةَ حَجِّهَا وَحَجِّ مَحْرَمِهَا مَعَهَا كَانَ ذَلِكَ إِحْسَانًا لِعِشْرَتِهَا، وَعَوْنًا عَلَى أَدَاءِ فَرْضِهَا، وَفِي قِصَّةِ الرَّجُلِ الَّذِي اكْتُتِبَ فِي الغَزْوِ وَامْرَأَتُهُ حَاجَّةٌ أَمَرَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ بِأَنْ يَتْرُكَ الغَزْوَ فَقَالَ: «ارْجِعْ، فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ»؛ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ
وكذلك ينبغي السماح لمن تحت يدهِ من العمالة لتمكينهم من أداء فريضة الحج ولا يتعذرُ بحجة أن العمل يتعطل أو أن المكفول جديد ولا بد أن يمضي عدداً من السنوات حتى يأذن له بالحج، فلربما سافر العامل وضاعت عليه فرصة الحج..
عباد الله، وَعَلَى من نوى الحج أَنْ يَسْتَعِدَّ له مُبَكِّرًا بِاخْتِيَارِ حَمْلَتِهِ، وَاسْتِخْرَاجِ تَصْرِيحِهِ، وَتَعَلُّمِ أَحْكَامِهِ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَفُوتُهُمْ قَضَاءُ فَرْضِهِمْ فِي كُلِّ عَامٍ بِسَبَبِ تَأَخُّرِهِمْ فِي الاسْتِعْدَادِ لِلْحَجِّ، فَإِذَا أَغْلَقَتِ الحَمَلاَتُ تَسْجِيلَهَا، وَامْتَلَأَتْ بِحُجَّاجِهَا، تَعَلَّلَ بِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ حَمْلَةً يَحُجُّ مَعَهَا، وَهَذَا دَأْبُهُ فِي كُلِّ عَامٍ، وَيَظُنُّ أَنَّ هَذَا عَذْرٌ صَحِيحٌ، وَالتَّفْرِيطُ مِنْهُ لاَ مِنْ غَيْرِهِ!
ومن كانت نفسه يا عباد الله تتوق إلى الحج وتتلهف إلى بيته العتيق وأداء هذا الركن العظيم فحال دون ذلك عجز مالي أو ضعف صحي أو مانع أمني فأبشر بالخير فإن نيتك عند قد بلغت ما بلغت.
اللهم بارِك لنا في الكتاب والسنة، وانفَعنا بما فيهما من الآيات والحِكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
الخطبة الثانية
حمداً لله على نعمائه، والشكر له على فضله وآلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي عبد ربه في سرائه وضرائه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه. أما بعد:
ها نحن أيها الأحبة نبدأً بإذن الله تعالى في إحدى الأشهر الحرم الأربعة والتي قال الله تعالى فيها: ﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ... ﴾ [التوبة: 36].
• فالأشهر الحرم هي أربعة: رجبٌ وذو القَعدةِ وذو الحِجةِ ومحرّم. وسبب تحريم هذه الأشهر الأربعة لأجل التمكن من الحج والعمرة، فحُرِّم شهر ذي الحجة لوقوع الحج فيه، وحُرِّم معه شهر ذي القعدة للسير فيه إلى الحج، وشهر المحرم للرجوع فيه من الحج حتى يأمن الحاج على نفسه من حين يخرج من بيته إلى أن يرجع إليه، وحُرِّم شهر رجب للاعتمار فيه في وسط السنة، فيعتمر فيه من كان قريبًا من مكة وهذه الأشهر مما عظمها الله سبحانه في كتابه، فيجب علينا أن نُعَظِّم ما عَظَّمَ الله، فإن تعظيمنا يُعد عبادة قلبية من أَجَلِّ العبادات قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى ﴿ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ﴾ أي في هذه الأشهر المحرمة، لأنها آكد، وأبلغ في الإثم من غيرها، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف، لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الحج: 25].
إن عدداً من المسلمينَ قد لا يعلمونَ هذه الأشهرَ الحُرمَ، وعدداً آخَر قد يعلمونها ولكن لا يُعظمونها كما أمرَ اللهُ والعرب كانوا يعظمونها جداً حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه لم يتعرض له.
والسيئة تعظم أحيانًا بسبب شرف الزمان أو المكان أو الفاعل، فالسيئة أعظم تحريمًا عند الله في الأشهر الحرم، وفي عشر ذي الحجة لشرفها عند الله، والخطيئة في الحرم أعظم لشرف المكان؛ قال ابن القيم رحمه الله: تُضاعفُ مقادير السيئاتِ لا كمياتها، فإن السيئة جزاؤها السيئة، لكن سيئةً كبيرةً وجزاؤها مثُلها وصغيرةً وجزاؤها مثُلها، فالسيئة في حرم الله وبلده وعلى بساطه آكد منها في طرف من أطراف الأرض، ولهذا ليس من عصى الملك على بساط ملكه كمن عصاه في الموضع البعيد من داره وبساطه.
فتخففوا - عباد الله - من ظلم أنفسكم بامتثال ما أمركم الله به، وترك ما نهاكم عنه، والتوبة مما فرط من الذنوب، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.