فتح برقة
من الصعب استنباط دوافع عمرو بن العاص التوسعية باتجاه الغرب في أعقاب فتح الإسكندرية، فقد تكون:
- جزءًا من الخطة التي استهدفت مصر.
- أو نتيجة لظروف طارئة واجهت القيادة العسكرية، فارتأت ضرورة تأمين الغطاء الدفاعي للحدود الغربية، بفتح مواقع أخرى تشغلها حاميات عسكرية ومراكز مراقبة.
- أو نتيجة غريزة التوسع لدى القائد الإسلامي.
الواضح أن الحملة التي قام بها عمرو بن العاص في هذا الاتجاه، والتي أثمرت عن فتح برقة وطرابلس لم تكن عملًا مخططًا له، إذ لم تكن هناك خطة مسبقة للفتح المنظم في ذلك الوقت تتعدى مصر، وربما قدر عمرو بن العاص أن تكون للبيزنطيين قوات في برقة وطرابلس قد تغريهم بالتحصن هناك، والتربص حتى تحين الفرصة للثأر، والعودة إلى مصر لاستعادتها، فكان عليه فتح هذه المنطقة، وتأمين مركز المسلمين في مصر.
لذلك خرج بقواته من الإسكندرية في عام "22هـ/ 643م"، بعد أن اطمأن على استقرار الأوضاع في مصر، وتوجه نحو برقة التابعة للإمبراطورية البيزنطية، وتسكنها قبيلة لواتة البربرية [1]، لم يكن الطريق إلى برقة آنذاك صحراويًا، بل كانت عليه سلسلة من المدائن والمنازل متصلة، وأكثره أرض خصبة ذات زرع، كانت الرحلة بمثابة نزهة للمسلمين، فلم يصادفوا مقاومة تذكر، فاستسلمت المدينة، ورضي أهلها بدفع الجزية، ومقدارها ثلاثة عشر ألف دينار سنويًا.
وتضمن الصلح شرطين ملفتين:
الأول: أنه أبيح لسكان برقة أن يبيعوا من أحبوا من أبنائهم ليؤمنوا الجزية المفروضة عليهم، ويبدو أن عادة بيع الأبناء كانت شائعة في أوساط هذه القبيلة، فلم يحرمه المسلمون إلا على من أسلم.
الثاني: أنه كان على سكان برقة أن يحملوا الجزية إلى مصر، حتى لا يسمح بدخول الجباة إلى بلادهم، وأرسل عمرو عقبة بن نافع حتى بلغ زويلة، وأضحى ما بين برقة إلى زويلة خاضعًا للمسلمين [2].
فتح طرابلس الغرب
وسار عمرو بن العاص من برقة إلى طرابلس، وكانت مرفأ حصينًا فيه حامية بيزنطية قوية، فأقفلت أبوابها، واستعد السكان للحصار الذي ضربه المسملون عليهم، وأملوا في تلقي إمدادات عن طريق البحر تساعدهم على الصمود، والمعروف أن الجبهة البحرية كانت مفتوحة وغير محصنة، وذلك بفعل اعتمادها على قوة البحرية البيزنطية، وانقضت عدة أسابيع دون أن يلوح في الأفق ما يشير إلى إمكان وصول المساعدة المنتظرة، وتعرض المدافعون عنها إلى الهلكة نتيجة الجهد في القتال وشدة الجوع.
وعلم المسلمون آنذاك أن الجهة البحرية خالية من الدفاعات وغير محصنة، وأنهم يستطيعون النفاذ إليها من هناك، فدخلت جماعة منهم بين أسوار المدينة، والبحر وقاتلت الحامية المولجة بالدفاع عن هذه الجهة، وصاح أفرادها "الله أكبر"، فترددت أصداء التكبير في طرقات المدينة وأزقتها، ولمعت سيوف المسلمين بفعل انعكاس أشعة الشمس، فذعر المدافعون عن المدينة، ودبت الفوضى في صفوفهم، فحملوا ما استطاعوا من متاعهم، وأسرعوا إلى السفن، وأبحروا عليها هاربين، ولما رأى الحراس فرار الحامية تركوا مراكزهم، فدخل عمرو وجيشه إلى المدينة، وأرسل عمرو فرقًا عسكرية جابت المناطق المجاورة.
وسار هو على وجه السرعة إلى مدينة سيرت، وهاجمها صباحًا على حين غرة، وذعر السكان، وقد ظنوا أن المسلمين، لا يزالون يحاصرون طرابلس، واضطروا إلى فتح أبواب المدينة عند أول هجمة إسلامية، واحتوى المسلمون على ما فيها؛ لأنها فتحت عنوة.
وكتب عمرو بن العاص إلى عمر بن
الخطاب يستأذنه في الزحف إلى تونس، وما وراءها من شمالي إفريقية، فلم يأذن له، وربما خشي عمر من تفرق المسلمين في بلاد واسعة، ولما تثبت أقدامهم فيها [3].
تأمين حدود مصر الجنوبية
تطلع عمرو بن العاص بعد عودته من الغرب؛ إلى الجنوب لإخضاع بلاد النوبة وتأمين حدود مصر الجنوبية، فأرسل عقبة بن نافع إلى هذه البلاد، فقاتله أهلها قتالًا شديدًا ارتد عقبة على أثره، ولم يعقد صلحًا ولا هدنة، والمعروف أن أهل النوبة اشتهروا برمي النبل، فلا يخطئون، وكانوا يتحرون الأعين فيرمونها فيفقأونها، فسماهم المسلمون رماة الحدق، وظل المسلمون يناوشون النوبيين من وراء الحدود [4].