الحمد لله رب العالمين، إنه هو السميع البصير، الذي يسمع شكوى عباده ونجواهم ويراهم في كربهم وبلواهم، بعين رحمته؛ فيكشف ما بهم من غم وهَم، وهو على نصرهم إذا يشاء قدير، والصلاة والسلام على نبي الرحمة المهداة للعالمين. رحمة الله بعباده وسِعت كل شيء، فعندما تضيق السبلُ بالعبد المؤمن، فليس له ملجأ إلا الله - سبحانه وتعالى - يشتكي إليه من الهم والغم، أو البلوى، أو المصيبة التي أصابته أو الظلم الذي وقع عليه، أو من أي شيء وقع عليه وهو لا يستطيع ردَّه.
ولنا في السيدة الصحابية الجليلة خولة بنت ثعلبة الأنصارية الأُسوة الحسنة في ذلك وقصتها معروفة؛ فعندما ذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تشتكي إليه أن زوجَها ظاهَرَ منها، قال لها الرسولُ الكريم - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أُوحِي إليَّ في هذا شيء)) وما زالت تراجع الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - وكان الظهار في الجاهلية طلاقًا وتشتكي إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - الفقر والحاجة، وتقول: إن لي صِبية صغارًا إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضمهم إليَّ جاعوا، وما زالت تحاور الرسول وتراجعه، حتى قال لها: ((هو ما قلت لك))، فقالت: إلى الله أشتكي، لا إلى رسوله، فنزلت أول سورة المجادلة. وفاتحة سورة المجادلة توحي إلى السامع أو القارئ بسرعة التنفيذ؛ فما زالت السيدة خولة لم تبرح مكانها ونزلت ﴿ قَدْ سَمِعَ اللهُ ﴾، ومجرد أن الله يخبرك أنه سمعك، هذه نعمة، فضلاً عن إجابة المسموع، و﴿ قَدْ سَمِعَ ﴾ هنا تعني الاستجابة؛ لأن الآية ذكر فيها فعل السمع الماضي والمضارع واسم السميع؛ فالماضي يعني الإجابة، والمضارع يعني الآن هو يسمع، وقد ذكر الماضي قبل المضارع لتعلم المجادِلة أنه - سبحانه - قد سمع قبل أن تتكلمَ، واسم السميع؛ ليعلم الناسُ جميعًا أن اللهَ كان سميعًا، وما زال سميعًا، وصفةُ السمع فيه - سبحانه - ذاتية قبل أن يخلق الناس ليسمعهم.
[2]
والآية توحي بالأُنس الإلهي، وقد قال - سبحانه -: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [المجادلة: 7] فالله يسمع منك كل شيء، حتى همس نفسك داخل نفسك وإن لم تتحرك شفتاك أو لسانُك، أو حتى خطراتك، بل يسمع أكثر من ذلك.
نعود للسيدة خولة، هذه الصحابية الجليلة، فقد علمت من الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - أنه لن يستطيعَ أن يفعل لها شيئًا؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يتكلم بشيء لم يأمره الله به فقال: ((لم يُوحَ إلي في هذا شيءٌ))، فعلمت - رضي الله عنها - أن الأمرَ منتهٍ، فوجهت الشكوى إلى السميع البصير، والذي يعنينا في هذا المقام هو هذا الصدق الخالص المتجرد لله - سبحانه - في توجيه شكواها إليه، فلا بد من وجود إخلاص وصدق في القلب في هذه اللحظة لم يكن موجودًا من قبل، وهذا هو السر في الاستجابة؛ فقد قال الله: ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النمل: 62] وقال - تعالى -: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا ﴾ [الإسراء: 67]. والشكوى التي يسمعها اللهُ من العبد المؤمن سماع استجابة، لا بد أن تكون بعد نفاد الأسباب التي خلقها اللهُ للأخذ بها، وهذا واضحٌ ظاهرٌ في شكوى خولة - رضي الله عنها.
[3]
ونريد أن نوضح أن اللهَ لم يذكر اسمها في السورة؛ وذلك لأن الله أراد أن يكونَ هذا الحُكم عامًّا في جميع المؤمنين؛ فكل من اشتكى إلى الله من أي شيء وقع عليه ظلمًا أو عدلاً، وكانت شكواه صادقةً وخالصة وقد نفدت أسبابه قبلها، استجاب الله له.
وسر الإخلاص في قلب العبد المؤمن لا يعلمه إلا اللهُ، ولا يعلم قدرَ هذا الإخلاص إلا اللهُ ولقد كان الصحابة ينزلون خولة - رضي الله عنها - منزلة عظيمة؛ ولهذا وقف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو أمير المؤمنين يستمع لنصيحة خولة - رضي الله عنها - وهو يقف أمامها لا ينطق بكلمة، يسمع ويطيع؛ فعندما انصرفت، قال له مَن كان معه: لماذا تسكت لها وقد حدثتك بغلظة؟ فقال له: ألم تعلم مَن هي؟ فهي خولة التي سمع الله قولها، أفلا أسمع أنا لها! والمؤمن له أن يشتكي إلى الله ما شاء، مع أنه يعلم أن كل ما أصابه هو بقدر الله، يستوي في ذلك ما أُصيب به بسبب تقصيره، أو ما أُصيب به من غير تقصيرٍ منه؛ ولذلك نرى يعقوب - عليه السلام - في قول الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 86] فيعقوب وهو رسول ونبي يشكو إلى الله حزنه على فِراق الأولاد، ولكنه يقول: ﴿ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾؛ أي: إنه يعلم أن هذا هو قدرُ الله، وأن الله سيردهم إليه، وأن الله على كل شيء قدير.
وما كان من نوح - عليه السلام - في سورة نوح إلا شكوى؛ لعدم طاعة قومه له، وقد دعا عليهم
في آخر السورة، وقد سمع الله شكواه، وأغرق الأرض ومن فيها، إلا نوحًا ومن كان معه في السفينة.
[4]
وأيضًا ما كان من أيوب - عليه السلام - في قوله - سبحانه -: ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 83] فما كان من الله إلا أن استجاب له، وهؤلاء رُسل وأنبياء، ومع ذلك كانوا يشكون إلى الله، وهذا يُثبت أن الشكوى إلى الله لا تنافي الإيمان. ويجب أن نذكرَ هنا أن الشكوى تكون إلى الله، وليس من الله، كأن يشتكي رجل إلى رجل مثله حاجتَه وفقره في ثوب اليأس من رحمة الله، والاعتراض على حُكمه، فهذا الحال حالُ جاهل لا يعلم عن الله شيئًا، والله يقول: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ﴾ [محمد: 19]، ويقول: ﴿ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الطلاق: 12] والعلم يجب أن يكون علمًا في الله، وعلمًا بالله، وعلمًا عن الله، هذه ثلاثة أنواع من العلم إذا رزقك اللهُ أحدها، فقد فزت فوزًا عظيمًا.
وانظر إلى خولة - رضي الله عنها - عندما تحاورت مع رسول الله، قالت: إنما أشتكي إلى الله لا إلى رسوله، فيجب على المؤمن أن يشتكيَ إلى الله كل ما ألَمَّ به، صغيرًا كان أم كبيرًا.
وبالنظر إلى ما تقدم فسوف نجد أن بركةَ الصدق والإخلاص لله في الشكوى كانت نتيجتها الاستجابة، وزوال الهم والغم، ونزول الحل والمخرج من الأزمة.
وقد يقع على المؤمن ظلمٌ بيِّن لا يستطيع رده؛ لضعف، أو لقلة حيلة، أو لعدم علم، أو لأي سبب، فليعلم المؤمن أن اللهَ على كل شيء قدير. والمؤمن قد يكون تقيًّا ويقع أيضًا عليه ظلم، ولكن الله تكفل بزوال هذا الظلم؛ فقال - سبحانه وتعالى - : ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2، 3]، فمع أنه تقيٌّ إلا أن الظلمَ وقع عليه، ولأنه تقي يجعل اللهُ له مخرجًا ورزقًا من غير أن يُلقِي له بالاً ويجعل له من أمره يُسرًا، ويكفر عنه سيئاته، ويعظم له الأجر - إن شاء الله.