إنَّ حُبَّ الأوطان أمْرٌ فطري، يُسَيطر على عاطفة الإنسان ووجدانه، والإنسان يتعلَّق دائمًا بأوَّل بيئة نشأ فيها، فكلُّ مكان في بيئته يذكِّره بِحَدَثٍ وذِكْرى، وكلُّ خطوة خطاها في مَوْطِنه تعبِّر عن عمره الذي قضاه فيه، وحنينُ الإنسان دائمًا يَجْذِبه إلى أوَّل مكان وُلِد فيه مهما عانَى في هذا المكان، ولا يحب الإنسان أن يَخْرج من موطنه إلاَّ تحت الظروف القاسية، وهذا ما صرَّح به الحبيبُ محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أما والله، إنَّكِ لأحبُّ البلاد إلى الله سبحانه - يقصد مكَّة - ولولا أنَّ أهلك أخرجوني منكِ ما خرَجْتُ)).
إن الحنين إلى الوطن وحُبَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - لمكة جعلها كأنَّها إنسان يشتكي إليه، تجبر القوم الذين تواطؤوا على إخراجه من الأرض التي نشأ فيها، وشهد فيها بَدْء الدَّعوة إلى الله، شهد فيها اليتم قبل أن يأتي إلى الحياة، وشهد فيها فَقْد الأُمِّ وهو لا يزال طفلاً يحتاج إلى حنان الأم، ويحتاج أن يشرب من هذا العطف قبل أن يأتي يومٌ لا يرى هذا العطف من أحد، بل يرى الغلظة من أقرب الناس إليه؛ حيث أَشْربوه كؤوس التعذيب والتنكيل.
فهذا أبو جهلٍ يُحاول بكلِّ قوَّة أن يستأصل النبِيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالكلية من أرض مكَّة، بل ويستأصل دعوته، ثم بعدما تنسَّم النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - الحنان والعطف والمواساة من زوجِه وعمِّه يفقدهما في مدَّة زمنيَّة متقاربة، ومن قَبْل ذلك اشتدَّ عليه الخناقُ في حصارٍ لَم يَشْهد التاريخُ مثْلَه رغم ما يَحْدث لإخواننا من حصار وتعذيب في كلِّ مكان؛ لأنَّ الحصار الذي حدث للنبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - هو حصار الأجساد والرِّسالة، أمَّا حصار اليوم فهو حصارٌ للأجساد؛ لكي يضغطوا على إخواننا من أجْل التنازل عن الأرض أو طمعًا في تنازل ولو جُزْئي عن العقيدة، أمَّا حصار الأمس في شِعْب أبي طالب فقد كان هدفه الأساسيُّ هو حصارَ الرِّسالة المحمَّدية؛ كَيْ تفقد أيَّ بريقِ أمل، فقد كان حصارًا اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا، وحصارًا لكلِّ الدِّين المتمثِّل في محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابِه، رغم كلِّ ذلك وقَلْب النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - متعلِّقٌ بِمَكَّة، وقد ظهر ذلك جليًّا أثناء تقليب وجهه في السَّماء؛ يريد أن يَنْزل الوحي بأمر تَحْويل القِبْلة إلى مكَّة.
فيا ترى ما الذي ألْجَأ النبِيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى الهجرة من مكَّة إلى المدينة رغم هذا الحُبِّ لوطنه وأرضه؟!
قبل أن نُجيب عن هذا السُّؤال، لا بُدَّ أن نعرف أنَّ الإنسان لا يضحِّي بشيء يحبُّه إلاَّ مِنْ أجل شيءٍ آخَر أعظم منه، فهل يا ترى الذي دفع النبِيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - على ترك وطنه أنَّه كان يَحْلم أن يقيم دولة يترأَّسها، ويُهَيمن عليها، ولا سيما بَعْد هذا الاستقبال الحافل من أهل المدينة له ولأصحابه؟ أم إنه هاجر كي يستريح من التَّعب والاضطهاد؟
قد تَرِدُ بعضُ هذه الخواطر على قاصري النَّظَر أو على المتربِّصين بالإسلام من العلمانيِّين وغيرهم.
إنَّ الإجابة عنْ سبب الهجرة لَخَّصَها لنا النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في كلماتٍ معدودة؛ كي يُخْرِس هذه الألسنة، ويقطع هذه الخواطر: ((وَلَوْلا أَنَّ قَوْمي أَخْرَجوني ما خَرجْتُ))، وعبَّر - صلَّى الله عليه وسلَّم - بكلمة الإخراج ليبيِّن عداوة القوم للإسلام وأهلِه، وأنَّ هؤلاء المجرمين دائمًا يبدؤون بالعدوان، والإسلام في أغلب أحواله يردُّ عدوانَهم.
وظنَّ أهلُ قريش أنَّ هذا الإخراج الذي جُرِّد المسلمون فيه من أموالهم وكلِّ ما يملكون أنَّه سيؤدِّي لا مَحالة إلى القضاء عليهم، وأنَّهم بذلك سينشغلون بتحصيل المال والتِّجارة؛ تعويضًا لِما أُخِذ منهم، فلا دعوة ولا رسالة، ولكن هيهاتَ هيهات! فقد انقلبت العصا على السَّاحر، وتحوَّلَت الدعوة من نطاقٍ مَحلِّي إلى نطاق عالَميٍّ كما وعد اللهُ رسولَه.
إنَّ هذا الإخراج قد انتهى بِفَتْح عظيم، حيث جعل الله مِلاك الأمر بيد النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ودخل مكَّة مرَّة أخرى فاتِحًا منتصرًا؛ ليحدِّد مصير القوم الذين أخرجوه، فيا له مِن نَصْر!
وقد ظنَّ أهْلُ مكَّة أنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - سيفعل معهم ما فعلوه معه، وأنَّه كان من المفترض - على أقلِّ تقدير - أن يُخْرِجهم كما أخرجوه، ولكن قال لهم الكلمة التي لا بُدَّ أن يسمعها العالَمُ كلُّه، كما سمعها أهل قريش: ((اذهبوا فأنتم الطُّلَقاء))، فلْيَسمع أصحاب الحضارات المزيَّفة الذين عذبوا الصغير قبل الكبير، ولَم يرحموا طفلاً ولا عجوزًا، ولا مريضًا، ينبغي أن يسمع المتشدِّقون بحقوق الإنسان أن الإسلام هو الذي حافظ على هذه الحقوق ولو مع أعدائنا: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا ﴾ [المائدة: 8]؛ الآية، ولكنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يعاملهم بالعدل فقط، بل عاملهم بالعدل والفضل؛ لأن العدل كان يقتضي أن يُخْرِجهم كما أخرجوه..
فما أعظمَك يا رسول الله!! وما أعظم هجرتَك