اﻹيثار والكرم ~
نَهَى الإسلام عن التبذير والإسراف، كما نهى عن البخل والتقتير، وجعل المبذِّرين من إخوان الشياطين، وعلَّمَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستعيذَ بالله من البخل والعجز وغلبة الدَّين!
ولكن في أحيان كثيرة - ومن أجْل غايات سامية - يلجأ الإنسان إلى الاقتصاد في المعيشة،
وإيثار التضحية بالكماليات؛ من أجل تحقيق غرض كريم، أو من أجل المصلحة العامة،
ويُعدُّ موقف الأنصارِ من أسمى المواقف في التاريخ الإنساني كُلِّه، حين شاطروا -
أو على الأقل كانوا يشاطرون - إخوانَهم المهاجرين في أموالهم ودُورهم، مُؤثِرين على أنفسهم،
محبِّين من أعماق قلوبِهم مَن هاجر إليهم!
وعندما كان بيتُ النبوة الكريم يُطعِم الطعام على حبِّه - أي: الحاجة إليه - مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا،
كان يُقدِّم صورة أخرى من صور السمو الإنساني والإيثار الكريم!
وللأسف، ففي حياتنا المعاصرة كثيرٌ من صور التبذير تقع في السلوكيَّات الشخصيَّة،
وبعضها يجمع بين حرمة التبذير وحرمة الشيء نفسه، كتعاطي الدُّخَان والنارجيلة،
فضلاً عن المخدِّرات الأخرى، وبالإضافة إلى مأكولات أجنبية ومشروبات لا تُعرَف تفصيلات مكوناتها،
بينما لدينا من أرضنا ووطننا موادُّ حلال، معروفةٌ مكوناتُها، مضمونة في حِلِّها، ومع ذلك يزهد الناس فيها،
ويُوقِعون أنفسهم في الشبهات والمحظورات، فضلاً عن وقوعهم في التبذير والترف والإسراف!
ولو فكَّر هؤلاء تفكيرًا إسلاميًّا وعقليًّا، لعلموا أنهم يستطيعون أن يصنعوا الكثير لأنفسهم وأولادهم
وأُمَّتِهم وأوطانهم عندما يتجنَّبون التبذير والإسراف في السلوكيات الشخصية أو الأفراح!
وهذه قصة رجل صالحٍ عَرَف هذه الحقيقةَ، وقام بتطبيقها على نفسه، مع أنه كان فقيرًا،
ولم يدَّخر الرجل من مشروبات حلال أو حرام، ولا من أفراح أو مناسبات، بل إنه ادَّخر من قوتِ نفسه؛
لأنه كان يحلم بأن يبنِي جامعًا في مكانٍ من أفضل الأماكن بالنسبة لرؤيته، ولقومه الذين يريد أن يبنِي الجامع بينهم؛ يقول المؤرِّخ والمفكِّر المعاصر (أورخان محمد علي): "إننا لكي نعرفَ القصة الحقيقية لهذا الجامع وهذا الرجل؛
يجب أن نفتح الصفحة رقم (119) من الجزء الأول من كتاب (جوامع إسطنبول)؛ لكي نقرأ قصة شخص ورعٍ،
كان يعيش في منطقة (الفاتح)، واسمه (خير الدين كججي أفندي)، فقد كان صاحبُنا هذا (خير الدين) عندما تتوق نفسه لشراءِ فاكهةٍ أو لحم أو حلوى، كان يقول في نفسه: سأفترض أنني أكلته، ثم يضع ثمن تلك الفاكهة أو اللحم أو الحلوى في صندوق عنده.
ثم مضت الأشهر والسنوات وهو على هذه الحال، يمنع نفسه عن كثير من لذائذ الأكل،
وبالتالي تزداد النقود في صندوقه الكبير شيئًا فشيئًا، حتى استطاع ذاتَ يومٍ أن يشتري الأرض الصالحة للبناء،
ثم يأخذ في بناء المسجد وحدَه دون طلب معونة من أحد، ولَمَّا كان أهل المكان يعرفون فقرَ هذا الشخص،
فقد فوجئوا بهذه، ولَمَّا عَرَفوا قصَّته انبهروا بها، وأطلقوا على الجامع الذي تمَّ بناؤه اسم (جامع كأنني أكلتُه)!
وما زال الجامع معروفًا بالتركية: (جامع صانكي يدم)؛ أي: جامع (أفترض أنني أكلت)، دلالة عظيمة على ما يمكن أن يفعله الإنسان إذا تجنَّب التبذير، وحَكَم نفسه، وضبط سلوكياته، واتَّقى الله في المال، وعَرَف أنه سيُسأل عن مصدره وصور إنفاقه يوم القيامة!
وقد بقي سلوك هذا الرجل الوَرِع الفقير مثلاً يُضرَب لِمَا يمكن أن يفعلَه تجنُّب التبذير والإسراف،
وقد أشاد المفكِّر والإمام التركي الكبير (بديع الزمان سعيد النورسي) بهذا السلوك،
مشيرًا إلى الدرسِ المستفاد منه، مخاطبًا كُلَّ المسلمين قائلاً لهم:
"كُلَّما نادتْكم اللذائذ ينبغي الإجابة بـ: (كأنني أكلت)؛ فالذي جعل هذا دستورًا له -
يقصد خير الدين صاحب القصة - كان بوسعه أن يأكل مسجدًا سمِّي باسم (كأنني أكلت) فلم يأكله!".
وهو درسٌ في الاقتصاد والزهد، وقوَّة الإرادة، وتقوى الله، يجب أن يعيَه كُلُّ المسلمين .
................
|
hﻹdehv ,hg;vl Z hofhv ,hg;vl
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|