04-04-2014, 01:12 AM
|
|
|
|
|
الكتابة العربية
نشأة الكتابة:
اختلف في نشأة الكتابة، متى كانت بدايتها، ومن أول من اخترعها، فالبعض يرى أن الكتابة توقيف من الله تعالى، أنزلت على آدم - عليه السلام - في إحدى وعشرين صحيفة[1]، وقيل: إنّ آدم - عليه السلام - هو من وضعها، كتبها في طين وطبخه، قبل أن يموت بثلاثمائة سنة، ولما كان غرق الطوفان، أصاب كلّ قوم كتابهم[2]، والحقيقة أنّ المعرفة الحقيقة لأصل الكتابة، وكيف كانت نشأتها، ليس بالأمر السهل، لغموض تاريخ تلك الفترات، ولكنّ المطلع على النقوش والآثار،
التي خلّفتها الحضارات القديمة، يدركُ أن عملية الكتابة لم تكن توقيفية من الله تعالى، ولم تكن اختراعًا فجائيًّا من وضع أحد بعينه.
وإذا كان الاتفاق على أن الكتابة هي من صنع الإنسان، لا توقيفية من الله تعالى، ولا من وضع آدم - عليه السلام - فهذا يعني أن الكتابة لم تكن بالشكل المتعارف
عليه الآن، ولكنّها مرّت بعدة مراحل طويلة عبر التاريخ، وذلك تبعًا لتطور حياة الإنسان، وبيئاته المختلفة، حتى وصلت إلى هي ما عليه في هذا العصر، وتتفق الدراسات على أن ظهور أول كتابتين كان في الشرق الأدنى القديم، وقد قدّم للعالم أول كتابتين هامّتين، وهما الكتابة المسمارية، والكتابة الهيروغليفية في مصر)[3].
ويؤكد هانم عبدالرحيم أن البداية الحقيقية للكتابة كانت في بلاد الرافدين، ثم تبعتها مصر بفترة متقاربة؛ حيث يقول: (أنّ الكتابة بدأت في العراق، وهيالكتابة المسمارية، وكانوا يؤكدون على ذلك من خلال تاريخ بعض الألواح الطينية التي وجدت في الحفريات القديمة التي تمَّ العثور عليها بجنوب العراق، وأكدوا أنها ترجع لعهد السومريين )[4].
فأما الأولى وهي:
الكتابة المسمارية: ظهرت في العراق، وعثر عليها من خلال بعض الألواح الطينية التي وجدت في الحفريات القديمة جنوب العراق، وأكدوا أنها ترجع لعهد السومريين[5].
وأمّا الثانية، الكتابة الهيروغليفية:
ظهرت الكتابة الهيروغليفية في مصر، وتذكر بعض المصادر أنّ المصريين القدماء قد اقتبسوها من السومريين، عن طريق الاختلاط بين الحضارتين[6]، (وقد استخدمها المصريون لمدة تزيد على 3000سنة، وقد استخدموا تلك الكتابة بشكل رئيس في النقوش الدينية على المعابد والنصب التذكارية الحجرية، ولتسجيل كلمات وأفعال الشخصيات والأسر الملكية)[7].
إن الكتابتين، السومرية، والهيروغليفية، تمثلان المراحل التي مرّت بها العملية الكتابية، حتى وصلت إلى الأبجدية المتعارف عليها الآن، وكان الوقت الذي ظهرت فيه الكتابة، نهاية لعصر ما قبل التاريخ المدون، وبداية التاريخ المكتوب وكانت الكتابة في أشكالها البدائية ثم المتطورة المرحلة الفاصلة بين عصور ما قبل التاريخ وبداية التاريخ المدون، وهذه المراحل مختصرة:
1-المرحلة التصويرية:
وهي المرحلة الأولى من مراحل الكتابة وأول أنواعها، وفي هذه المرحلة، كان الإنسان يعبر عمّا يريد قوله عن طريق الرسم، فإذا أراد أن يعبر عن الملك، رسم تاجًا، وهكذا..، (وقد روى هيرودوت مضمون رسالة دوّنت (بالموضوعات) بعثتها قبائل السكّيت إلى داريوس ملك الفرس قبل خوض القتال معه، وقد اشتملت الرسالة على رسم عصفور، وفأر وضفدعة، وخمسة سهام، فقام جوديا مساعد الملك داريوس بتفسير مضمونها أيها الفرس ألم تتواروا في السماء كالعصافير، أو تختبئوا في الجحور كالفئران، أو تقفزوا في الماء كالضفادع، فستغدون هدفًا لسهامنا)[8].
2- المرحلة الرمزية:
تكاد ترتبط هذه المرحلة بالمرحلة السابقة، إلا أن الإنسان في هذه المرحلة أصبح يعبر عن المعاني المجردة والأفعال، فأصبحت الشمس مثلًا، تعبر عن النور والنهار والبياض، والتاج صار رمزًا للملك، (والمفاهيم المجردة يعبر عنها رمزيا، فالبرودة رمز لها بالمياه الجارية، وفعل أكل رمز له بإنسان يرفع يده إلى فمه )[9] ؛ يقول ول ديورانت: (ولما كانت بعض المعاني مجردة إلى حدّ يصعب معه تصويرها تصويرًا حرفيًّا، فقد استعيض عن التصوير بوضع رموز للمعاني، فقد كانت بعض الصور تتخذ بحكم العادة والعرف للتعبير عن الفكرة التي توحي بها، لا عن الشيء المصور.
3-المرحلة الصوتية أو المقطعية:
تعدّ هذه المرحلة مهمة لتأسيس الأبجدية، وقد مرت بمراحل عديدة حتى وصلت إلى الأبجدية؛ إذ اهتدى الإنسان فيها إلى رسم صور وأشكال للدلالة على الكلمات التي يتفق عليها في لغة معينة، (فقد كان الكتاب يقطعون الكلمة الصعبة مقاطع، ويبحثون عن الألفاظ المشابهة لهذه المقاطع نفسها في النطق والمغايرة لها في المعنى، ويرسمون مجموعة الأشياء المادية التي توحي بها أصواتها )[10]، ومثال ذلك كلمة مجلس، فهي تتكون من مقطعين، (مج )، و( لس )، فقد اصطلحوا على وضع إشارات رمزية تدل على هذين المقطعين، بحيث يتم استخدامهما في جميع الكلمات التي يرد بهم هذان المقطعان، ثم عمل الإنسان على تبسيط هذا النوع من الكتابة، فقد عمل على وضع صور تدل على الحروف، (إذ يكفي للتعبير عن الأشياء والأفكار جميعها بعدد محدود من الصور يساوي عدد الحروف الهجائية لكل لغة، فعلى سبيل المثال للدلالة على كلمة " شرب " يرمز للحرف (ش) بالشمس، وإلى الحرف (ر) بالرمح، وإلى الحرف (ب) بالبيت)[11]، وهكذا استطاع الإنسان القديم أن يضع حجر الأساس للأبجدية، عبر فترة زمنية استغرقت آلاف السنين.
4-المرحلة الأبجدية:
وهي المرحلة التي تطورت فيها الكتابة من الكتابة بالمقاطع، إلى الكتابة بالحروف؛ بحيث يقابل كل صوت، حرف واحد، ويرجع الفضل إلى الفينيقيين في اختراع هذا النوع من الكتابة، والذين سكنوا بلاد الشام، وقد اكتمل هذا النجاح عندما وضعت جثة احيرام ناووسه في جبيل، حيث استخدم في الكتابةالمحفورة على غطائه اثنان وعشرون رمزًا اصطلاحيًّا تقابل اثنين وعشرين حرفًا صحيحًا، فكانت هذه الكتابة مصدر الأبجديات التي انتقلت إلى اليونان والإغريق، واعتمدت عليها اللغات السامية كذلك، لتنتقل هذه الأبجدية إلى جميع الحضارات المتوسطة عن طريق الإغريق[12].
في أصل الخطّ العربي:
اللغة العربية هي إحدى اللغات الساميّة، والتي سكن أهلها شبه جزيرة العرب بعد تشتت الساميين، الذين انتشروا في أنحاء مختلفة، فنتج عن ذلك انحلال لغتهم السامية إلى عدة لغات[13]، وقد قسم العلماءُ العربيةَ، إلى عربية بائدة، وعربية باقية، فأما البائدة، فلم يبق منها إلا بعض النقوش الصفوية والثمودية واللحيانية[14]، والتي تشير إلى أن تلك الأمم كانت تتكلم العربية، وأمّا الباقية، فهي التي يتكلم بها العرب في العصر الحالي، والتي اختلف العلماء في أصلها، ومكان نشأتها، وعمَّن أخذها العرب؟ وتعددت الآراء في ذلك، ومنها:
1- أن الخطّ العربي توقيف من الله تعالى، علّمه لآدم - عليه السلام - كما باقي الخطوط وقد سبق بيان بطلان هذا الرأي.
2- أنّه مشتق من الخط الحميري (المسند)، وهو خطّ أهل اليمن[15]، انتقل إلى العراق؛ حيث تعلمه أهل الحيرة، ثم تعلمه أهل الأنبار، فنقلته جماعة إلى الحجاز، عن طريق القوافل التجارية والأدبية[16]، وقال الدكتور إبراهيم جمعة ببطلان هذا الرأي؛ إذ إنه لا يستند إلى دليل مادي، وليست هناك علاقة ظاهرة بين خطوط "حمير" في اليمن، والخطّ العربيّ[17]، غير أن نقوش العربية البائدة، والتي كتبت بخط المسند، تخالف هذا الرأي.
3- أنّ من وضع الخط العربي، رجل من بني يخلد، يدعى النضر بن كنانة، فكتبت به العرب[18].
4- وكان ابن عباس يقول أن أول من وضع الكتاب العربي إسماعيل - عليه السلام - وصفه على لفظه ومنطقه[19].
5- وقيل أن أول من وضعه نفيسًا ونصرًا وتيمًا ودومة بني إسماعيل، وضعوا كتابًا واحدًا وجعلوه سطرًا واحدًا موصول الحروف[20].
6- وقيل: إن الكلام العربي بلغة حمير وطسم، وجديس وارم وحويل، فهؤلاء هم العرب العاربة، وأن إسماعيل لما حصل في الحرم ونشأ وكبر، وتزوج في جرهم، الى معاوية بن مضاض الجرهمي، فهم أخوال ولده، فعلم كلامهم[21].
7-.وقيل: إن ثلاثة نفر من طيء اجتمعوا ببقعة وهم (مرامر بن مرّة، وأسلم بن سدرة، وعامر بن جدرة)، فوضعوا الخطّ، وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية، فتعلمه قوم من الأنبار، وعنهم أخذت العرب.
والآراء حول أصل الخطّ العربيّ كثيرة[22]، ولعلّ أقربها إلى الصّواب، هو الرأي الذي أجمع عليه العلماء والمستشرقون والذي يقول: إنّ الخطّ العربي مشتق من الخطّ النبطي، وأن العرب أخذوا الخط العربي عن أبناء عمومتهم الأنباط قبل الإسلام[23]، والأنباط هم قبائل عربية نزحت من الجزيرة العربية وسكنوا في المناطق الآرامية في فلسطين وجنوب بلاد الشام والأردن[24]، ويؤيد هذا الرأي الدكتور جواد علي؛ حيث يقول: إن أغلب حروف وأشكال الخط العربي مشابهة لحروف الخطّ النبطي المتأخر وأشكاله، كما أيده في ذلك الدكتور إبراهيم جمعة[25]، ولعله أكثر رأي يركن إلى دليل ماديّ؛ حيث يستند العلماء الذين قالوا به، إلى النقوش النبطية التي كشفت الصلة بين الخط العربي والنبطي، وهذه النقوش مختصرة:
1- نقش النمارة:
وقد عثر على هذا النقش في منطقة النمارة، وهي قصر صغير للروم، قرب دمشق، وهو يشير إلى قبر امرئ القيس بن عمرو، من ملوك الحيرة، وقد دوّن بالرسم النبطي المتصل الحرف، والرسم.
النبطي هو أحد أنواع الرسم الآرامي[26]، ومنه اشْتُقَّ الرسم العربيّ[27]، ومن مميزاته ارتباط بعض حروفه ببعض، وكتابة بعض الحروف في نهاية الكلمة بشكل يختلف عن رسم الحروف التي من نوعها المستعملة في أوائل الكلمة أو أواسطها[28]، وتعد هذه الكتابة أول كتابة وأقدم كتابة عثر عليها حتى الآن مدونة باللهجة العربية الشمالية القريبة من لهجة القرآن وإن كتبت بالخط النبطي المتأخر[29]، وهذا ممّا يؤكد ارتباط الخط النبطي بالخط العربي، الذي تختلف فيه بعض الحروف، في أول الكلمة منها في آخر الكلمة والقريب من خطّ القرآن الكريم.
2- نقش أم الجمال:
عثر عليه جنوب حوران، شرق الأردن، ويوجد في هذه الكتابة حروف غير مرتبطة، وحروف مشابهة لحروف الخط الكوفي، وكتبت بالآرامية، ووجد فيها أسماء عربية، وقد كانت تستعمل القبائل العربية الشمالية، الآرامية في الكتابة[30].
3- نقش زبد:
وكتب بثلاث لغات، اليونانية والسريانية، والعربية، وعثر عليها بين قنسرين ونهر الفرات[31]، وكان النص العربي فيه لا يخلو من الأثر الآرامي[32].
4- نقش حران:
عثر عليه في حران اللجا، في المنطقة الشمالية من جبل الدروز، ومدون باليونانية والعربية[33].
وبناءً على تلك النقوش التي وجدت، اتفق أغلب العلماء والمستشرقون على صواب الرأي الأخير، غير أنّه لا يمكن إهمال الرأي الذي يقول بأن الخطّ العربي مشتق من الخطّ المسند، بدليل وجود نقوش العربية البائدة، التي تثبت الصلة بين الخط المسند والخطّ العربي، وقد حاول حسان صبحي مراد، الباحث في تاريخ الخطّ العربي، الجمع بين الرأيين؛ حيث إن الخطّ المسند غير بعيد الشبه عن الخط الآرامي، وأن لغة المسند تأثرت باللغة الآرامية، وأن أبجديتنا العربيةترتبط بأبجدية العرب الأصلية وهي المسند، فكيف الجمع بين الرأيين؟
إن النبّط هم قوم عرب، تأثروا بالخط المسند، وبخط الآرام، ثم اشتقوا من الخط الآرامي خطًّا جديدًا سمي بالخطّ النبطي[34]، وبهذا يحل الخلاف القائم حول أصل الخطّ العربي، غير أنّ حسان صبحي مراد، يعود ليرى أن أصل الخطّ العربي هو المسند[35].
الكتابة العربية في ظلّ الجاهلية:
اختلف المؤرخون، هل كان العرب يعرفون الكتابة أم لا، فمنهم من فهم لفظ الجاهلية، فهمًا ضيقًا، وأجحف في حقّها، فقالوا: إنّ العرب لم تعرف الكتابة، ولا القراءة، ولا العلوم، وغاب عن أذهانهم أن لفظ الجاهلية أطلق عليهم من منظور دينيّ، حيث الجهل بتوحيد الله والإيمان بالله، والجهل بالديانات السّماوية، فالأمّية التي وسمها بهم القرآن الكريم أُمَّية في الدين[36]، وإلا، فإن العرب كان لديها من العلوم، بمقدار لا بأس فيه، وفي شأن الكتابة يقول الدكتور عمر فروخ: (ومع أنّ عرب الجاهلية لم يكونوا أهل كتابة، فإنّ الكتابة عندهم لم تكن نادرة كما يميل بعضهم، لقد كان العرب يكتبون بينهم العقود والمواثيق، ويكتبون الرسائل في بعض الأحوال، ويبدو أن الشعراء كانوا يدونون أشعارهم أيضًا، ومع أنّ الكتابة معروفة في الجاهلية، فإنها لم تكن مألوفة، وخصوصًا في البادية)[37]، ولعلّ السبب في هذا، ما فرضته طبيعة الحياة الجاهلية، من تنقل وترحال، واشتغال بالتجارة.
وجاء القرآن يحاكي العرب بما يفهمونه ويعرفونه، فذكر القلم والكتاب، والألواح، وما كان الله ليخاطب قومًا بشيء لا يعرفونه، فقال تعالى مخاطبًا نبيه - عليه الصلاة والسلام - ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1]، وقال تعالى: ﴿ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الفرقان: 5]؛ يقول الدكتور ناصر الدين الأسد في هذه الآية: (تُبين عن أنّ بعض الجاهليين كانوا يدوّنون الأخبار والقصص والتاريخ، وأنّ هناك من كان يملي هذه الموضوعات)[38].
والآيات التي تدلل على هذا كثيرة في القرآن الكريم، ولما جاء الإسلام كان في قريش سبعة عشر رجلًا كلهم يكتب، وكانت الشفاء بنت عبدالله العدوية تحسن الكتابة، وكان في المدينة يهوديّ من يهود ماسكة قد علمها، فكان يعلمها الصبيان، فجاء الإسلام وفي المدينة بضعة عشر يكتبون، منهم سعيد بن زرارة، والمنذر بن عمرو، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، ورافع بن مالك، وأسيد بن حُضير، ومعن بن عديّ، وأبو عبس بن كثير، وأوس بن خوليّ، وبشير بن سعد[39].
ويروى أنّ في الجاهلية معلمين، يعلمون الناس القراءة والكتابة، وضروبًا من العلم، وقامت في مكة والمدينة، والطائف والحيرة والأنبار وغيرها، وغيرها- مدارس يتعم فيها الصبيان الكتابة العربية[40]، ولعل عديّ بن زيد العبادي، يعدّ شاهدًا على هذا، إذ تعلم في الكتاب الخطّ العربي، ثم الخطّ الفارسي[41].
الكتابة العربية في ظلّ الإسلام:
حظيت الكتابة في ظلّ الإسلام باهتمام كبير؛ إذ كانت ركيزة أساسية من ركائز الدعوة الإسلامية، ووسيلة هامّة في حفظ الوحي، والدعوة إلى توحيد الله، فجاء القرآن معظِّمًا لشأنها والعلم، رافعًا من قدرها، فأول آية نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أذكى البشر، وأفصح العرب، وقائد الأمّة، مدركًا لأهمية العلم والتعلّم، ولدور الكتابة في الحياة السياسية، والدينية، والثقافية، فقد روي أنّ له - صلى الله عليه وسلم - كتَبَةَ، يكتبون الوحي الذي أنزل عليه، (منهم الخلفاء الأربعة، ومعاوية، وأبان بن سعيد، وخالد بن الوليد، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت وثابت بن قيس، وحنظلة بن الربيع وغيرهم، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أنزل عليه شيء يدعو أحد كتّابه هؤلاء، ويأمره بكتابة ما نزل عليه ولو كان كلمة...، وكان الصحابة يكتبون القرآن فيما يتيسر لهم حتى في العظام، والرقاع، وجريد النخل، ورقيق الحجارة، ونحو ذلك)[42].
فأول آية نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1]، وجاء حاضًّا على تدوين الأمور المهمة، كتوثيق المعاملات، حفظًا لحقوق العباد، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ﴾ [البقرة: 282].
وفي غزوة بدر، كان رسول الله يطلق سراح الأسير في بدر إذا علّم عشرة من صبيان المسلمين في الكتابة، حتى قيل: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرف القراءة والكتابة في آخر عمره[43]، واهتم أيضًا بتعلم النساء، فأمر الشفاء بنت عبدالله العدويّة أن تعلم زوجته حفصة القراءة والكتابة[44]، وغدتالكتابة وسيلة مهمة من وسائل الحكم، كما بدا ذلك في رسائل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام[45]، واتسعت رقعة البلاد الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين، وأصبحت الحاجة ضرورية للمكاتبات والمراسلات في شؤون الدولة، واشتهر ذلك في عهد الخليفة عمر بن الخطّاب[46]، وكتب التاريخ مليئة برسائل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى أمراء الأمصار الإسلامية، فازدادت الحاجة إلى الكتابة، كوسيلة لنشر القرآن الكريم، وكوسيلة لحفظ كتاب الله - عز وجل - الإسلامية، فأمر الخليفة عثمان بن عفان، بنسخ القرآن الكريم وضبطه، وجمعه في مصحف واحد، وكتب المصحف في زمن عثمان بالرسم النبطي في كثير من صور الكلمات، ثم كان التطور في كتابة المصاحف بخطوط مختلفة[47]، وأرسل عثمان - رضي الله عنه - منه نسخًا إلى الأمصار الإسلامية، وفي عهده ظهرت الكتابة على النقود الساسانية، حيث حملت(بسم الله) و(بركة) و(محمد)، وانتشرتالكتابة العربية انتشارًا قويًّا ومؤثرًا على كتابة اللغات الأخرى؛ كالإيرانية والهندية، وفي أنحاء كثيرة من العالم[48]، وأخذ الخط العربيّ يتطور في الكوفة، والتي أصبحت مركزًا لتطوره، في عهد الخليفة علي بن أبي طالب عندما نقل الخلافة إلى الكوفة، وعرف بالخط الكوفي؛ حيث كانت تنسب الخطوط إلى المكان التي توجد فيه، مثل الخط المدني والمكي والبصري[49].
ولما اختلط العرب بالأعاجم، وذاع سيط الإسلام، ودخل به الكثير من غير العرب، ظهر اللحن في اللغة العربية، وخشى العلماء أن يطول هذا الفسادُ القرآن الكريم، فعمدوا إلى ضبط اللغة العربية، نحوًا وكتابةً، بتشكيل آخر الكلمات، وأول من قام بهذا، هو أبو الأسود الدؤلي بتكليف من زياد أمير العراق حوالي 67هـ، واستعان الدؤلي في ذلك بعلامات كانت عند السريان يدلون بها على الرفع والنصب والجرّ، ويميزون بها بين الاسم والفعل والحرف[50]، ثم عمدوا إلى ضبط الحروف العربية، عن طريق الشكل والتنقيط، ليزول الالتباس بين الحروف المتشابهة، كالدال والذال، بوضع نقطة على الذال، فكان هذا أول إصلاح أجري على اللغة العربية، ليأتي الإصلاح الثاني في زمن الخليفة عبدالملك بن مروان، عندما قام يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم بوضع الإعجام - أي: النقط - فكان الاختلاف بين الشكل الذي وضعه الدؤلي، والشكل الذي وضعه يحيى بن يعمر، ونصر بن عاصم، فقام الخليل بن أحمد الفراهيدي في العصر العباسي بالإصلاح الثالث؛ حيث قام بإبدال النقط التي وضعها أبو الأسود الدؤلي للدلالة على الحركات الإعرابية بجرات علوية وسفلية للدلالة على الفتح والكسر، وبرأس واو للدلالة على الضمّ، واصطلح على أن يكون السكون الخفيف (الذي لا إدغام فيه) رأس خاء أو دائرة صغيرة، وللهمرة رأس عين (ء)، وغيرها من الإصلاحات[51].
أنواع الخطوط العربية:
ازدهرت الحضارة الإسلامية واتسعت رقعتها، وارتفع شأن الكتابة، حتى قُرّب الكتاب من الخلفاء، وصارت الكتابة حرفة، ومهنة شريفة، يمارسها البعض، وأصبح الخطّ العربي عنصرًا مهمًّا من عناصر الزخرفة الإسلامية، كما تشهد المعالم الإسلامية في سوريه وفلسطين، والأندلس، على هذا[52]، وابتعد الفنانون عن الرسوم الآدمية والحيوانية، وانكفأ الفنانون على الخطّ العربي، يجودونه، ويزخرفونه، وأصبح الخطّ العربي علمًا له أسسه وقواعده، وأنشئت له مدارس خاصة تعنى بتطويره، مثل المدرسة العراقية، والمدرسة المصرية، والمدرسة التركية، والفارسية[53]، وكان الخط العربي في بدايته، ينسب إلى المكان الذي وجد فيه كما تقدم، كالمكي، والبصري والحيرة والأنباري، ويرى الدكتور إبراهيم جمعة، أنه لا اختلاف بين هذه الخطوط في مراحلها الأولى، ورجح أن يكون الاختلاف اختلاف تجويد اختلاف خصائص[54]، ليتميز بعدها كل خطّ بخصائص تميزه عن الآخر، معتمدين في ذلك على هندسة الحروف بطرائق مختلفة وأذواق مختلفة، ومن أهم الخطوط العربية[55]:
1- الخط الكوفيّ:
ظهر بالكوفة، وكانت بدايته في عهد الخليفة عليّ بن أبي طالب، وينقسم إلى عدة أقسام:
أ- الخط الكوفي البسيط: شاع في القرون الهجرية الأولى، وهو خالٍ من التوريق والتخميل والتوريق، ومادته كتابية بحت، ومن أشهر أمثلته، ما كتب على قبة الصخرة في القدس الشريف.
ب- الخط الكوفي المورق: تلحقه زخارف تشبه أوراق الشجر.
ج- الكوفي ذو الأرضية النباتية (المخمل): تستقر فيه الكتابة فوق أرضية من سيقان النبات اللولبية وأوراقه، وأشهر أمثلته في إيران.
د-الكوفي المضفر (المعقد): وهو نوع من الزخارف التي بولغ في تعقيدها، إلى حد يصعب فيه أحيانًا التمييز بين العناصر الخطية والزخرفية.
هـ-الخط الكوفي الهندسي: يتميز بأنه شديد الاستقامة، قائم الزوايا، أساسه هندسي بحث، ونشأنه غامضة.
2- الخط النسخي:
سميّ بالبديع والمقور، والمدوّر، والمحقق، واستخدم في المراسلات والمعاملات التجارية، واستنساخ الكتب، وبه زيد بن ثابت - رضي الله عنه - بعض رسائل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالخطّ المقور، ومنه الخط اللين المدور الذي كتب به نقش حران، وأشهر الكتاب في هذا الخط، الضحاك بن عجلان واسحق بن حماد، وازدهر هذا النوع من الخط في عصر الخليفة المأمون ومن الخط النسخي كذلك، خط الثلث ظهر في أواخر الدولة الأموية، على يد قطبة المحرر، وطوّره الخطاط إبراهيم الشجري، وهو على عدة أنواع، ومنه خط الطومار، والتعليق، والرقعة، الذي يميل إلى البساطة والجمال، والبعد عن التعقيد، وشاع استخدامه خلال حكم الدولة العثمانية، ومن الخط النسخي كذلك، اخط الديواني، وكان يكتب فيه قرارات الدولة العثمانية وبلاغاتها وكتبها الرسمية، وتتميز حروفه بأنها ملتوية، وكذلك خط الطغراء، وخطّ الإجازة[56].
أدوات الكتابة العربية:
كتب الجاهليون على الجلد، وكانوا يسمّونه بالرقّ والأديم والقضيم، وهناك اختلاف بسيط بينهم، فالرقّ جلد رقيق، والأديم جلد احمر والقضيم جلدٌ أبيض[57]، وكتبوا على القماش، حريرًا كان أم قطنًا[58]، وعلى سعف النخيل[59]، وكان صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكتبون على العظام والرقاع وجريد النخل ورقيق الحجارة[60]، واستخدم العرب ورق البردي المصري، ويرجع عهدهم به بعد سنة عشرين للهجرة[61]. |
hg;jhfm hguvfdm
|
تعليمات المشاركة
|
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك
كود HTML معطلة
|
|
|
الساعة الآن 09:04 PM
|