حين أراد الله أن يُذكِّر عباده المؤمنين بنعمةِ ومِنّةِ امتنَّ عليهم بها اختار أن يذكرهم بنعمة تآلف القلوب والأخوة الإيمانية فقال: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران من الآية:103].
فتأمَّل كيف تكرَّر لفظ النعمة مرتين في الآية، وتدبر ما فيه من دلالة على تلك القيمة التي زهد فيها الزاهدون، وتولى عنها المسلمون إلا من رحمهم الله وألَّف بين قلوبهم وأذاقهم تلك النعمة.. نعمة الأخوة الإيمانية
ومن أظهر الأدلة على قيمة الآمرين بالعدل والناصحين بالقسط والصادعين بالحق من الناس - ومن أوضح الإشارات لخطورتهم على أهل الباطل هو ذلك الاقتران بينهم وبين النبيين عليهم السلام في قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران:21].
لم يتحمل الظالمون سماع أصواتهم، ولم يطيقوا أمرهم بالعدل ونهيهم عن البغي، فكتموا أفواههم وألحقوهم بمورثيهم وقدواتهم وذلك دأبهم مع هذا الصنف في كل زمان ومكان فبشرهم بعذاب أليم.
ولقد بيَّن ربنا في سورة آل عمران أن أحد أهم أسباب الخلاف وأخطرها هو البغي.. ورغم ما أوتي الأحبار من علم إلا أن الخلاف قد وقع بينهم بسبب هذا البغي في الأساس..
{وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران من الآية:19].
حتى مع وجود العلم حدث الخلاف.. ذلك لأن العلم وحده لا يكفي لإصلاح واقع المرء، بل ينبغي أن تعضده الخشية ويؤازره الصلاح وترسخ مآلاته الأخلاق الحسنة من تجردٍ وإنصافٍ وعدل..
من هنا ينبغي أن يتنبه المختلفون دومًا ويراجعوا نِيَّاتهم باستمرار وليسألوا أنفسهم من آنٍ إلى آخر:
لماذا نختلف؟
وهل تسرَّب البغي وتسلَّلت الآثام والأحقاد إلى قلوبنا؟
هل هو اختلاف حقيقي أم شابته حظوظ النفس والانتصار للذات والاستعلاء بها؟
أم أنه التناصح والرغبة في الوصول إلى الحق بتجرد وإقساط وصدف؟ فإن كانت الأخيرة وكان الاختلاف طلبًا للحق وتناصحًا لله وصدعًا بالحق الذي يدين به المرء وصحَّت النوايا واجتُنِبَ البغي والظلم - فالظن بالله أن يهدي المختلفين إلى ذلك الحق وأن يجتمعوا يومًا على كلمةٍ سواء..
ومن ذاق نعمة الهداية، وتشرَّب قلبه حلاوة الإيمان، وانتشت روحه بروعة القرب من الله.. فسمت نفسه برحمات الاصطفاء والصلة بالسماء - لم يعدل بتلك النعم شيئًا وكانت أسمى أمانيه ألا تفارقه تلك الرحمات، وألا يزيغ قلبه عن تلك المشاعر والقربات فدعا من أعماق نفسه قائلًا: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8].
وحُبُّ الشهوات وتزيُّنها في أعين الناس مسألة تكاد تكون عامة لا يخلو منها إنسان طبيعي..
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14].
والشرع لم يأتِ مصادِمًا لها من جذورها، أو مانعًا لوجودها بشكلٍ مُطلق؛ ولكن جاء ضابطًا لها ومعينًا للإنسان على التحكُّم فيها وأداء حقها، والأهم أن يضبط توصيفها وأن ينظر لها نظرةً صحيحة ويعطيها قيمتها الحقيقية..
إن كل ذلك مجرد زينة..
ومتاع..
{ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}..
"المال والبنون زينة الحياة الدنيا"..
والمتاع هو: ما يستعمله المرء لفترة مؤقتة ثم يزول الاستمتاع به بعد انقضاء هذه الفترة طالت أو قصُرت..
هكذا ينبغي أن تكون النظرة لكل ذلك النعيم الدنيوي الزائل حتى لا ينجرف الإنسان إلى أن تكون تلك الشهوات غاية رجائه ومنتهى أمله وهدف حياته..
إنه مجرد متاع مؤقت..!
{وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}..
أما الخير الحقيقي والمتعة الخالصة التي ينبغي أن يعلق قلبه بها..
{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَٰلِكُمْ ۚ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:15]..
بذلك الميزان تنضبط النظرة، ويصح التصوُّر، وتستقيم مسيرة الإنسان في ظلال تلك الزينة المبهرة من الشهوات.. والمتاع.
ورفض النصح من خلال التحجُّج بعدم الاحتياج والإعراض عن الناصحين والداعين إلى الخير عن طريق الادِّعاء بأن المدعو ليس مفتقِرًا إلى التذكير ولا محتاجًا إلى التواصي والنصح - هي ليست مسألة جديدة ولا سلوك مبتكر لأهل الباطل!
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [آل عمران:23]..
فحقيقة توليهم هو الإعراض ورفض الحق وإن غلَّفوا ذلك بصيحات رفض المزايدة وادِّعاء الاكتفاء الذاتي والذي هو في حقيقته أيضًا نوع من تزكية النفس والتقول على الله..
{ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَات} [آل عمران من الآية:24]..
ومن أدراكم؟!
وأيُّ عهدٍ ذلك الذي اتخذتموه عند ربكم جعلكم أغنياء النصح مستعلين على الذكرى التي تنفع المؤمنين؟!
إنه الغرور والاغترار..
بل هو الافتراء والتألِّي..
{وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُون} [آل عمران من الآية:24]..
هو ذاته في كل زمانٍ ومكان..
وفي آل عمران جملتان جامعتان توضحان مِنهاجًا مهمًا في حياة طالب الإنصاف..
منهج التفصيل وعدم الانسياق خلف شهوة التعميم المُطلَق الذي يضع كل المخالفين في سلةٍ واحدة والنظر إليهم جميعًا بنظرةٍ أحادية البُعد لا تستطيع أن تميز في معاملة أو سلوك..
ولا شك أن الدمج والخلط أيسر لكنه ليس بسبيل المنصفين..
أولئك الذين الذين يحرصون دومًا على التفصيل بمنهج {وَمِنْهُم}، {لَيْسُواْ سَوَاءً}..