البراجيل والأبراج

البراجيل , والأبراج

البراجيل والأبراج

لأن الإنسان مدني بالطبع، عمل دائماً على تحفيز قدراته العقلية والنفسية وكذلك الجسدية
ليواجه تحدي الطبيعة وقسوتها، ومثل هذا التوجه يعبر عن استعداد فطري كرس الإنسان من خلاله
مجموعة من القيم على رأسها قيمة العمل والمثابرة، وصولاً إلى الزمن الحاضر الذي
أنجزت فيه الحضارة كثيراً من ملامح التمدن والتطور العمراني الذي نعيشه اليوم .



الحديث عن التطور العمراني، هو حديث شيق، لا سيما في منطقة الخليج التي شهدت مراحل متدرجة
ترجمت قدرة إنسان هذه المنطقة على التكيف، في ظل مناخ قاس شديد الحرارة مرتفع الرطوبة وهو الذي سيجعلنا
ندلف إلى فكرة "البراجيل" في العمارة القديمة التي وصفت بأنها واحدة من مفردات التراث المحلي
والتي تعود نشأتها في الإمارات إلى عام 1903 عندما وصل التجار القواسم إلى دبي واستقروا في منطقة الفهيدي
التي ما زالت تحتوي على العديد من البيوت المزودة بالبراجيل، وهو ما يؤكد عليه الباحثون
من بينهم ناصر العبودي الذي يضيف أنها كانت تحتوي على نقوش وزخارف جبسية، ورغم اختلاف أشكالها إلا أن آلية
العمل فيها واحدة، وفيها فتحات أربع تواجه اتجاهات الريح لجلب الهواء إلى داخل المنزل وتبريده .



فالبراجيل إذاً هي كلمة تعني "مسرب الريح" أو "ملقط الهواء"، وهي تؤدي وظيفة مهمة
تعمل على التقاط نسيم الهواء وتلقي به عبر منفذ عمودي طويل داخل المنزل، ومن خلال عملية
مستمرة تعمل على خروج الهواء الساخن داخل الغرف وإحلال هواء بارد بدلاً منه كي ينعم به
سكان المنزل، ويقيهم حر الصيف ولزوجة هوائه الذي يخنق الأنفاس .



تجمع المصادر التاريخية على أن البراجيل كانت قائمة منذ العهد العباسي، كما عرفت في الشام والمغرب
وبعض المصادر تعود إلى ريف مصر حيث كان يطلق عليها "ملاقف الهواء"، وأكثر من ذلك، أكد دارسون
أن آثار الفراعنة شهدت العديد من هذه البراجيل، وفي إيران أيضاً تذكر المصادر أنها كانت تبنى من الأسمنت
أما قصتها في الخليج فتبدأ من منطقة اسمها "لنجا" التي كان يسكنها عرب على الضفة الأخرى
من هذا الخليج مقابل الشارقة، وهم أول من صمموا الأبراج ونشروها خاصة في الكويت والبحرين
والسعودية وسلطنة عمان ومن ثم إلى أرجاء المنطقة ومنها الإمارات، حيث شيدت من مواد البناء القديمة .



بعض الرواة الشفاهيين يتحدثون عن البراجيل وانتشارها في مناطق مختلفة من الإمارات بالتأكيد
على أن تاريخها يعود لنحو مئتي عام وأنها كانت مقتصرة على بيوت الأجداد، ومن هؤلاء رجل ثمانيني
اسمه جمعة حميد خلفان بقوله "حاولنا قبل النفط أن نعمل على توفير مسكن مناسب لنا
يقينا حرارة الجو وطوعنا العمارة وأضفنا لها حلولاً مبتكرة مثل البراجيل للاستفادة من مواد
الإنشاء المتوفرة واستغللنا الرياح من أجل تلطيف الحرارة داخل منازلنا" .



ويفصل خلفان بناء البراجيل بتأكيده على أن المباني الصيفية كانت ذات نوافذ من الجهات الأربع
للاستفادة من حركة الهواء داخل المبنى، موضحاً أن المنازل الصيفية تنقسم إلى نوعين، الأول بيوت مبنية
من الجص وتسمى بالعامية "الصاروج" وأخرى بالحصى وتسمى "الدهاريز" والنوع الثاني يتكون من منازل
سعف النخيل وتسمى "العريش" ومعظمها يحتوي على البراجيل المصنوعة من السعف
الذي يغطى بمواد مناسبة لطبيعة البيوت في ذلك الزمان .

- وهنا الانفوجرافيك الكامل لآلية عمل البراجيل.



البراجيل تصميم تراثي قديم، يلائم البناء التقليدي المحلي، شيدت بمفردات البيئة المحلية
لتلبي بذلك واقع الحياة وظروفها، وهي بحسب المواطن خالد محمد: تأخذ الشكل المنتظم المربع
كبرج متعامد القطرين، مفتوح من الجهات الأربع، وموقعها عادة أعلى الغرف الرئيسة والمجالس
وتعد مكوناتها المعمارية والجمالية استكمالاً لشكل واجهات المبنى، ووجدت البراجيل على نوعين
حسب طبيعة المبنى، النوع الثابت المبني "المسكن التقليدي"، والمؤقت الخفيف "العريش" .

بعض المعماريين يلجأون إلى تطعيم المنازل والعمارات الحديثة بتفاصيل ذات طبيعة تراثية
على غرار الموجود في المتاحف وبعض الواجهات المعمارية في الغرب حيث تزين واجهاتها الأمامية
تفاصيل من العمارة التقليدية والتراثية التي يعود زمنها إلى مئات وربما آلاف السنين
ولم يجد المهندسون المتواجدون على أرض الإمارات أفضل من البراجيل من ناحيتها الجمالية والمعمارية
تماشياً مع بعض التشريعات الرسمية التي تدعو للحفاظ على التراث بوصفه يجسد قيمة ينبغي استمرارها
والحفاظ عليها وتعريف الجيل الناشىء بأهميتها ودورها، كما برز بشكل
جلي في مناطق البستكية والشندغة والسوق القديم في دبي .

تجربة الريس

درج الفنان التشكيلي الإماراتي من خلال استلهامه للتراث على إبراز ملامح من العمارة القديمة في رسوماته
والقائمة تطول لذكر أسماء هؤلاء التشكيليين، غير أن المهم في هذا السياق التذكير بحقبة تاريخية
ليست بعيدة من زمن تطور العمارة المحلية، وهو ما حرص الفن على تقديمه كما هو في أحد المعارض
التي قدمها الفنان الشاب فريد الريس في مارس/ آذار من هذا العام في مرسم مطر في دبي .

حرص الريس على استحضار عبق الماضي في لوحاته، بنوع من الحنين لزمن شكل فيه الآباء
والأجداد القاعدة والأساس لما هي عليه دبي اليوم، من خلال استلهام فكرة البراجيل والأبراج الشاهقة
ليبين الوجوه المتعددة لإمارة دبي، التي لا يزال التراث في الأبنية القديمة فيها يعانق الأبراج الحديثة البناء .

استخدم الريس في لوحاته ألوان التراث، بدءاً من الألوان الترابية واستخدمها في خلفيات الرسم
إلى جانب الأزرق الذي استخدمه في الخلفيات المائية، ليجسد المشاهد بطريقة تصويرية
تفيض منها المشاعر والأحاسيس النابعة من الانتماء للمكان، وهو بأعماله يحاكي فن التصوير بل يتجاوزه
إلى مرحلة أخرى، يسقط من خلالها الكثير من الإضافات على المشهد الواقعي .

كانت تجربة الريس في إبراز البراجيل كأنها تجسيد للأماكن في مرحلة انتقالية
بين زمنين، فيبدو كأنه يبحث عن توثيق لتاريخ البلد من خلال الفن واللوحة .

المزج بين البراجبل والأبراج في لوحات الريس، يتماشى مع دعاوى الحفاظ على التراث وضرورة
أن تكون المتاحف الحديثة بما في ذلك الأماكن العامة ذات صلة بماضيها العريق هو إذاً تجسيد لذلك العناق
بين زمنين وتاريخين، كتلك اللوحة التي تجمع بين قمة برج خليفة وقاعدة البرجيل.

المصدر: منتديات تراتيل شاعر - من قسم: تَرآثِيـاتْ ▪●

---

hgfvh[dg ,hgHfvh[