التسخُّط من أخطر معاصي القلوب التي قد تُعيقك عن السير في طريقك إلى الله عزَّ وجلَّ، فتتعثر/ي وتنظر/ي للحياة نظرة متشائمة تمنعك من إكمال المسير ..
يقول ابن القيم "فأكثر الخلق، بل كلهم إلا مَن شاء الله يظنون باللهِ غيرَ الحقِّ ظنَّ السَّوْءِ، فإن غالبَ بنى آدم يعتقد أنه مبخوسُ الحق، ناقصُ الحظ وأنه يستحق فوقَ ما أعطاهُ اللهُ، ولِسان حاله يقول: ظلمنى ربِّى، ومنعنى ما أستحقُه، ونفسُه تشهدُ عليه بذلك، وهو بلسانه يُنكره ولا يتجاسرُ على التصريح به، ومَن فتَّش نفسَه، وتغلغل فى معرفة دفائِنها وطواياها، رأى ذلك فيها كامِناً كُمونَ النار فى الزِّناد .. فاقدح زنادَ مَن شئت يُنبئك شَرَارُه عما فى زِناده .. ولو فتَّشت مَن فتشته، لرأيت عنده تعتُّباً على القدر وملامة له، واقتراحاً عليه خلاف ما جرى به، وأنه كان ينبغى أن يكون كذا وكذا، فمستقِلٌ ومستكثِر ..
فلو نظر كل واحدٍ منا لوجد آثـــار التسخُّط كامنة في أعماق قلبه ..
مظاهر التسخُّط ((اختبــار القلوب لكشف العيـــوب))
هيا بنــا نضع قلوبنا تحت المجهر؛ لنبحث عن تلك الآفة الخفية ونكتشف مظاهرها بداخلنا ..
هل يمر على قلبك أوقات يتسائل فيها "لماذا يا ربِّ؟!" .. اعتراضًا على ما قد يعتريه من أقدار؛ كتأخر الرزق أو الزواج، أو عدم التوفيق لفعل الطاعات أو أي تعثر يقابلك في الطريق؟!
هل تعترض على بعض أحكام الشرع التي يعجز عقلك عن فهم الحكمة منها؟! .. كأن تقول بلسان حالك: لِمَ حَرَّم الشرع ----؟! . . لماذا ظلم الإسلام المرأة وفضَّل عليها الرجل؟!
وهل تُكْثِر الشكوى من شدة الابتلاءات؟ .. أو تشعر بعدم الرضا؛ إذا رأيت ابتلاءات غيرك؟! ..
وهل تعيش الضنك في بيتك؟ لأنك تنظر إلى ما أنعم الله به على أخوتك وتتحسر على أن تلك النعم ليست لك؟!
فكل ما سبق من مظاهر التسخُّط الذي هو نوع من الاعتراض الخفي على قدر الله سبحانه وتعالى،
وفي الغالب يُصاحبه حسد أو جحود وكفران،،
مخـــاطر التسخُّط ولكي يتولد لديك الدافع الذاتي للتخلُّص من تلك الآفة الخطيرة؛ لابد أن تعلم مخاطرها والتي من أهمها:
1) التسخُّط بـــاب الشرك الأعظم .. لأن الإنسان المُتسخِّط يجحد نعمة الله عليه، ويعترض على تدبير الله سبحانه وتعالى له .. فالله عزَّ وجلَّ يُعطي عبده الكثير من النِعَم الظاهرة والباطنة، ويمنع عنه بعضها لحكمةٍ ما .. والإنسان دائمًا يتسخَّط على ما حُرم منه من النِعَم القليلة، ولا يشكر ربَّه على ما أغدق به عليه من نِعَمٍ أخرى ..
وقد حذر النبي النساء خاصةً من آفة التسخُّط .. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ"أُرِيتُ النَّارَ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ يَكْفُرْنَ"، قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟، قَالَ "يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ؛ لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ" [متفق عليه] فإن كان التحذير من التسخُّط مع البشر، فمن باب أولى ألا تفعل ذلك مع ربِّك عزَّ وجلَّ،،
3 ) ويحلق الدين .. يقول ابن القيم "فالرضا يفرغ القلب لله، والسخط يفرغ القلب من الله" [مدارج السالكين (2:208)]
فلو تسلل إلى قلبك سوس التسخُّط، سيُضيِّع منه حب الرحمن وسيتزعزع يقينه وسيفرغ القلب من الإيمان،،
4) التسخُّط شكاية الله للخلق .. رأى بعض السلف رجلاً يشكو إلى رجلٍ فاقته وضرورته، فقال : "يا هذا، والله ما زدت على أن شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك"،
وفي ذلك قيل : وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرح [الفوائد (1:88)]
فإلى مَن تشتكي؟ أتشتكي ربِّك الرحيم إلى عبد مخلوق لو كنتِ في قبضته ما رَحِمك؟!
5) التسخُّط من أشد أسباب العذاب .. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ".. وإن الكافر إذا احتضر أتته ملائكة العذاب بمسح فيقولون اخرجي ساخطة مسخوطًا عليك إلى عذاب الله عز وجل. فتخرج كأنتن ريح جيفة حتى يأتون به باب الأرض، فيقولون: ما أنتن هذه الريح حتى يأتون به أرواح الكفار" [رواه أحمد والنسائي وصححه الألباني، مشكاة المصابيح (1629)]
6) التسخُّط من صفات المنافقين .. قال تعالى {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58]
7) التسخُّط يحبط عملك .. فقد تقومي بأعمال كبيرة من صدقة وصيام وأعمال بر، ولكن كل ذلك يحبط إذا أصاب قلبك ذرة تسخُّط؛ لأن هذا جزاء من أتبع ما يُسخِط الله تعالى .. قال تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28]
8) التسخُّط من علامات الساعة .. قال رسول الله "اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ" ومنها: " اسْتِفَاضَةُ الْمَالِ حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِائَةَ دِينَارٍ فَيَظَلُّ سَاخِطًا" [صحيح البخاري]
10) التسخُّط موجب لسخط الرحمن جلَّ جلاله .. عن أنس قال: قال رسول الله "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله عز وجل إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط" [رواه الترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني، مشكاة المصابيح (1566)]
ا لرضــــا عن الله::
البلسم الشافي لمرض التسخُّط ..
فالرضــا من أعظم مقامات الإيمان .. يقول الفضيل بن عياض "درجة الرضا عن الله عزَّ وجلَّ درجة المقربين ليس بينهم وبين الله تعالى إلا روح وريحان" [حلية الأولياء (3:395)]
الرضا يخلصك من الهم والغم والحزن وشتات القلب وسوء الأحوال . . لأنك لن تحزن على ما فاتك؛ لمعرفتك بأن قدر الله لا يأتي إلا بكل خير.
وإن لم ترض بقضاء ربِّك، ستظل حزينا .. مُبتلى بالآلام النفسية،، والراضي من أسرع الناس استجابةً لأوامر الله تعالى .. لأن قلبه ليس فيه تسخط تجاه ربِّه عزَّ وجلَّ. والراضية بالله قلبه طاهر .. فيسلم قلبه من الغش والحقد والحسد؛ لأنه راضي بما قسمهُ الله له فلا ينظر إلى ما أنعم به على غيره.
ومزيــد الرضـــا أعظم عند الله من طاعات الجوارح .. لأن أجر الراضي لا ينقطع، حتى لو انشغل بأي عملٍ آخر فإنه سيثاب على ما في قلبه من رضا عن الله عزَّ وجلَّ.
فكيف نجعل قلوبنـــا راضية عن الله عزَّ وجلَّ؟
خطوات عملية لعلاج التسخُّط 1) الانقيــاد والاستسلام لأمر الله تبـارك وتعالى .. قيل ليحيى بن مُعاذ رحمه الله: متى يبلغ العبد مقام الرضا؟ قال: إِذا أَقام نفسه على أَربعة أُصول فيما يعامل به ربِّه، فيقول: "إن أَعطيتنى قَبِلْت، وإِن منعتنى رضيت، وإِن تركتنى عبدت، وإِن دعوتنى أَجبت" [بصائر ذوي التمييز (3:82)]
ولأن الإسلام أساسه الاستسلام لأوامر الله تبارك وتعالى، فلا ينبغي أن يكون في قلبك أي معارضة أو منازعة أو حرج تجاه أي أمر من أوامر الشرع ..
قال تعالى {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ
2) العلم والفهم عن الله تعالى .. فلو فهمت الحكمة من جميع أحكام الشرع والابتلاءات التي تمر بكِ، لعلمت أن الله عزَّ وجلَّ لا يريد بكِ إلا كل الخيــر .. ولكن عقولنا القاصرة لا تدرك ذلك دائمًا، فعليك أن تتعلم العلم الصحيح الذي يُعرفِك بربِّك عزَّ وجلَّ ..
يقول الجُنيد "الرضا هو صحة العلم الواصل إلى القلب، فإذا باشر القلب حقيقة العلم أداه إلى الرضا" [مدارج السالكين (2:174)]
وعليك بمدارسة أسماء الله تعالى وصفاته .. لتتعرف أكثر على ربِّك عزَّ وجلَّ،
وابدأ بصفات جماله جلَّ جلاله باسم الله تعالى الحليـــم، واللطيـــف، الكريــم الأكرم العليــم، الشكور؛ لتعلم مدى حلم الله تعالى ولطفه وعطفه على عباده ...
وتفكَّر كم من نعمة كنت تتمنى لو أنك حصلت عليها ولكن حُرمت منها، ثمَّ اتضح لك بعد ذلك أنك لو نُلتها لكانت سببًا في عذابك وشقاءِك ..
وكم من ابتلاء مرَّ بك كنت تحسب أنه شرٌ لك، ثم فُتِحَت لك أبواب عديدة من الخيــر بسبب هذا الابتلاء ..
3) ترك الاختيـــــار .. فلا تختار قبل القضاء، بل تستخير ربِّك وتسأله أن يدبِّر لك أمرك وتتوكل عليه .. ولا تتألم أو تجزع إذا جاء الأمر غير موافقًا لهواك، بل تستقبل البلاء بسكينة وطمأنينة وثقة في الله عزَّ وجلَّ؛ لأنه لن يُضيِّعك ..
قال ذو النون : "ثلاثة من أعلام الرضا : 1) ترك الاختيار قبل القضاء .. 2) وفقدان المرارة بعد القضاء . . 3) وهيجان الحب في حشو البلاء" [مدارج السالكين (2:177)]
4) القيـــام بأعمال يرضى عنها الله عزَّ وجلَّ .. لأنكِ لو سعيت فيما يرضيه سيرضى عنك وحينها تدخل جنة الرضــا .. والأعمال التي تُرضي الله عزَّ وجلَّ كثيرة ويسيرة،
منها: ·حمد الله تعالى بعد الأكل أو الشرب .. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ "إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا" [صحيح مسلم]
·إرضاء الوالدين .. عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله "رضا الله في رضا الوالد، وسخط الله في سخط الوالد" [رواه الترمذي وحسنه الألباني، صحيح الترغيب والترهيب (2501)]
·والسعي في مرضاة الله تبارك وتعالى في كل حــال .. قال رسول الله "من التمس رضاء الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضاء الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس" [رواه الترمذي وصححه الألباني، صحيح الجامع (6097)]
فإيــــاك أن تُقَدِم رضا أي أحدٍ من البشر على رضا الله سبحانه وتعالى .. وإن أقدمت على فعل أي طاعة، فلا تجعل الخوف من الناس يثبطك عن فعلها ..
قال تعالى {.. وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 62] اللهم هبنا عطاءك، ولا تكشف عنا غطاءك وأرضنا بقضائك،، منقوول والله اعلم