عندما تتجه صوب الجنوب من العاصمة اللبنانية بيروت، وفي الطريق الساحلي من خلدة إلى الدامور، ترى أن الحياة تدب في شرايين الطبيعة، وترى أشجار «الكينا» العالية وهي ترسم لوحة تشكيلية رائعة، مشيرة لزائر المنطقة أنَّه أدرك بلدة كفرحيم، بل هو في محاذاة مغارتها الشهيرة التي تخلب الألباب بجمالها الساحر الذي سكبه الله سبحانه وتعالى في هذه البلدة من بلدات جبل لبنان، وهي الأولى من بلدات الشوف التي تستقبلك، فاتحة ذراعيها بأشجار الصنوبر الخضراء، محاطة بالجبال من كافة جوانبها، وكأنها حصن تمرد على غضب الطبيعة المتقلبة صيفاً وشتاء.
تدهشك بجمال مناظرها وألوانها الساطعة بلطف على سقفها وجدرانها التي نحتتها الطبيعة بأناملها الفنية حتى تحولت إبداعات ساحرة. بدخول مغارة «كفرحيم» الاستثنائية في طبيعتها، تنتقل فجأة إلى عالم جديد، حيث رسمت المياه العذبة المتدفقة من جميع أنحائها طبقات متداخلة ومناظر طبيعية متنوعة الأشكال، تحولت بفعل الزمن، إلى مجموعة من اللوحات الفنية المتناسقة، تضفي ببريقها منظرا رائعا وأخاذا. في داخل المغارة، قاعات فسيحة وارتفاعات مختلفة وشموع وثريات وتماثيل متدلية من السقف وصاعدة من الأرض ومنبثقة من الجدران، تكونت من الترسبات الكلسية وتعرف باللغة العربية بـ«صواعد ونوازل»، متلونة بالأرجواني والوردي واللازوردي (الأزرق السماوي) والأحمر والبرتقالي.
إنها مغارة كفرحيم، قطعة من جبل تجذّر في حضارة لبنان، تقع في بلدة هي الأولى من بلدات الشوف، حيث تستقبلك فاتحة ذراعيها بأشجار الصنوبر الخضراء، ومحاطة بالجبال من كافة جوانبها، وكأنها حصن تمرد على غضب الطبيعة المتقلبة صيفا وشتاء.
ويقول غسان بو خزام (أحد أصحاب المغارة) في حديث لـ«الشرق الأوسط» التي التقته في معرض المغارة الحرفي: «يقدر عمر المغارة بأكثر من أربعة ملايين عام، درجة حرارتها معتدلة ما بين 18 0 درجة مئوية على مدار السنة، وهي اليوم تعتبر من أهم المرافق السياحية والمعالم الأثرية اللبنانية».
لا تكف دهاليز المغارة الواقعة على بعد ثلاثين كيلومترا من العاصمة بيروت عن جذب المئات من السياح والمستكشفين طوال أيام السنة من لبنانيين وعرب وأجانب، فيما تفتح أبوابها صيفا و«شتاء» وعلى الدوام.
داخل مغارة كفرحيم تسمع قطرات مياه تنساب بخفة من بين الصخور، فتارة تسقط على رأس السائح أو الزائر من السقف وتارة أخرى إلى جبهته.. من دون استئذان.
ويضيف بو خزام أنه وحفاظا على معالم المغارة، «أقمت وأخواي شفيق وحسام، بعد سنوات على اكتشافها معرضا حرفيا دائما فوق ظهرها للحرف والأشغال اليدوية التي تحكي تاريخ وتراث المنطقة، وكذلك تلك الخشبية المتعلقة بالسياحة اللبنانية، إضافة إلى قطع منوعة من خشب الأرز، وجميعها بالطبع تعبر عن التراث اللبناني».
أما الجديد في عالم المغارة فهو المجمع السياحي الذي أقامه بو خزام وأخواه بالقرب من المغارة ويتضمن صالة للاستقبال ومطعما شرقيا وفندقا صغيرا و«تراسا» صيفيا، حتى أصبحنا أمام مشروع سياحي متكامل في المنطقة. اكتشفت المغارة في ربيع عام 1974 عندما كان بعض الأولاد يلعبون كرة القدم، فتدحرجت الكرة لتسقط في فوهة عند أسفل تلة صخرية، تعقّب الأطفال كرتهم ونزلوا إلى قعر الجبل مطلقين صرخاتهم المدوية وكأنهم في حلم! وما هي إلا لحظات حتى وجد الأطفال أنفسهم في مغارة مزدانة بأشكال مهيبة تحمل آلاف الأشكال المدفونة تحت الأرض.
ما لبث أصحاب الأرض أن هرعوا إلى المكان، بعد إبلاغهم بالخبر ليجدوا عشرات الأشخاص الذين سبقوهم إلى هناك، وقد عقدت الدهشة ألسنتهم أمام الجمال الأخّاذ الذي اكتشف للتو في مغارة لم يدخلها أي إنسان من قبل.
وفي اليوم التالي عنونت صحيفة «النهار» اللبنانية صفحتها الأولى: «جعيتا ثانية في كفرحيم».
ولم يمض يومان حتى انتدبت وزارة السياحة باحثي آثار للكشف على المغارة، وأعطت آل أبو خزام علما بالموافقة على ترميمها من حسابهم الخاص.
وبالفعل استدعى الإخوة الثلاثة، وهم المالكون للأرض، خبراء أخصائيين في علم الجيولوجيا وأخذوا ينقبون الصخر بالأزاميل حتى تمكنوا من شق فتحة كبيرة كمدخل أول يصل المغارة بأربع درجات ومدخل ثان يصلها بعشرين درجة.
بعدها راحوا يشقون أغوارا جديدة صوب الداخل إلى عمق تسعة أمتار، وكانوا ينقلون الأتربة إلى أماكن بعيدة للتخلص منها ما استتبع صرف المبالغ الطائلة للانتهاء من أعمال التنقيب والتي بلغت آنذاك نصف مليون ليرة لبنانية، وهو مبلغ ضخم بالنسبة لهم، فاضطر الإخوة الثلاثة إلى بيع بعض من أراضيهم لتوفير الأموال اللازمة لإنهاء المشروع.
كان ارتفاع المغارة يومئذ مترا وستين سنتم كحد أقصى وستين سنتم كحد أدنى، فعملوا على توسيعها وفتح آفاقها وترميمها ووصل الاستكشاف إلى حد خمسين مترا، وعلى عمق يتراوح بين 8 0 مترا حيث المناظر الخلابة التي جسدتها الطبيعة، فتخال نفسك أمام تماثيل صنعتها قطرات المياه، بحيث أصبحت مركزا سياحيا مهما في منطقة الشوف.
وإذا كانت دروبها الداخلية متعرجة، إلا أن الرحلة داخلها تستغرق 20 دقيقة فقط، تمر بسرعة وأنت تتأمل شموعها وثرياتها تشع ببريقها كالألماس والكريستال.
واللافت أن المغارة تكونت عبر قرون من الترسبات والتأكلات الصخرية، حتى باتت اليوم مشهدًا يصعب وصف جمالية تكوينه.
وانتقالا إلى لفظة كفرحيم، يقول المؤرخون إنها مركبة من لفظتين سريانيتين: «كفار» أي قرية، و«حيم» أي الحمو (أبو الزوجة)، ومعناه قرية أبي الزوجة وهكذا أطلق عليها اسم «كفرحيم».
أما أكثر ما تمتاز به هذه البلدة، فهو أخلاق أهلها المتسمين بالألفة والمحبة والطيبة، وهم أشبه بعائلة واحدة في الأفراح والأحزان، يجتمعون في بيت واحد وهو بيت البلدة. وكان للمغارة أثر كبير في إظهار التقاليد الخاصة بالأفراح، من خلال صالة الاستقبال ما يضفي البهجة على الزوار والسائحين.
وفي الختام فإن بلدة كفرحيم لا تشهد نزوحا في فصل الشتاء، نظرا لموقعها الجغرافي، وقربها من العاصمة، ما جعلها موقعا ماليا وتجاريا وصناعيا هاما، بفضل كثرة أبنائها المتعلمين من مختلف الاختصاصات. فهناك أكثر من 40 مهندسا في ميادين شتى 0 طبيبا وعدد كبير من المحامين والضباط وهيئات تعليمية، ناهيك عن عدد من رجال الأدب والفكر.