( كلما حاولتُ أن أضحكَ .. يغشاني البُكاءْ ) عتمةٌ لا تُشبهُ السّواد .. إنها عتمةٌ مُريعة ،، تبدأ بشرارةٍ وإلى الجحيمِ تنتهي عتمةٌ تسري في الذاكرة ،، تُجهزُ على النورِ بعدَ أن قضى دهرًا يحتضر تنبشُ الأسى وتنصبُ الكمائنَ لذكرياتِ الفرح تقدحُ الأحقادَ بجدرانِ القلب فتُشعلُ في أوردتهِ فتيلَ الانتقام عتمةٌ أشبهُ ما تكون بالموت والاحتضارُ حربٌ باردة ،، يقودها الموتُ بلا جيشٍ ويخوضها بلا سلاح إنهُ وحدهُ جيشٌ جرّار ، وهو أمضى من كل الأسلحة هناكَ عندَ الضفةِ البعيدةِ موتٌ مقيمٌ على أطلالِ أرواحٍ راحلة أو موتٌ مقيمٌ على أطلالِ أرواحٍ باقية لا فرق ،، فكلّ الأرواحِ مجرد أطلال ،، وكلها تشتركُ في الموت كما تشتركُ كلّ الليالي في الألم / في الحرمانِ وفي النجومِ المطموسةِ التي تبدو كأخاديدَ في أديمِ السّماء ،، الليالي التي تتشابهُ في الأنينِ المنبعثِ من بكاءِ المحرومين حتى إذا ابيضّت أعينهم من الحزنِ أشرقَ من بياضها نورُ نهارٍ لا يُبصرونهُ في أعينهم سوى حُلكة ،
ولا يستشعرونهُ في قلوبهم سوى غصّة لأنّ سناهُ يضيءُ لغيرهم .. الليالي الغريبة التي تضمّ بين عطفيها الغرباء وتهدهدهم بنشيدِ غربةٍ يؤرقهم بدل أن يناموا ، ويُشجيهم بدلَ أن يطربوا ، ويُبكيهم بدمِ القلبِ تارةً وبدمعِ العينِ تارةً أخرى
الضفةُ تختنقُ بالطرق والطرقُ تختنقُ بالأرصفة والأرصفةُ تختنقُ بالمشردين والمشّردونَ يختنقونَ بالزمن الزمنُ المحترق فجرُه ، فهو منذ ميلادهِ ملقى في كونٍ بلا مشارق ، غارقًا في الديجور .. الزمنُ الذي لا يُشبهُ شيئًا إلا الوطن وطنٌ من أرواحٍ تائهة ، تشعرُ بها تتسكعُ في طرقاتهِ مُعولةً بألحانِ الموت الموتُ العادلُ الذي يُحررُ الروحَ من موتٍ في كفنِ حياة وطنٌ من موت ،، مزدحمٌ بالطرقات والطرقاتُ مختنقةٌ به على جانبٍ فرعيٍ يقابلكَ طريقٌ مغلقٌ على الدوام ،، إنهُ طريقُ الحياة أما بقيّةُ الطرقُ فهي تمتد أمامكَ بلا نهاية وهي مفتوحةٌ على الدوام والكل عابرٌ منها والرحيلُ لمن خانهُ الأجل تلكَ طرقُ الموت
على الطريق الرئيسيّ تلمحُ أشلاءَ الأمنياتِ المقتولة وفي كلّ الطرقِ الفرعيةِ تشمّ رائحةَ الأحلامِ المحترقة هل سبقَ وشممتَ رائحةَ حلمٍ يحترق ؟ كأنكَ تسخر ..؟ اسمع إذن .. إنهُ حلمٌ بسيط غاية في البساطة إنهُ حلمُ الإنسانية عندَ الحدودِ يعلو سورٌ شاهق يختنقُ بهِ العابرونَ ويختنقُ هُو بالوطن ليسَ ثمةَ العديدِ من الخيارات ،، ولا مجالَ لفعلِ أيّ شيءٍ سوى الموت فإمّا الموت وإمّا الموت ويا للموتِ من خيارٍ مُريحٍ لكلّ الأطرافِ في معادلةِ الحياة ! الراوي هنا لا يحترفُ الكذب .. الراوي هنا هُو الشارعُ الغارقُ في الدم / المباني المهدّمة / الأجسادُ المشوّهة الكرامةُ المقتولة بجسدها المصلوب في الميدان الراوي لا يسكت ،، إنهُ يتحدثُ على الدوام يحكي الحكايةَ تلوَ الحكايةِ ،، وأنتَ مُدمن حكايات لكنكَ تأبى أن تُصدقَ الراوي مع أنّ الراوي لا يكذب
أنتَ لا تستطيعُ أن تستوعبَ مقدارَ الأسى قلبكَ ساذجٌ حدّ الغباء ،، وعقلكَ يرفضُ فهمَ التفاصيلِ فضلا عن تصديقها وروحكَ تعجز عن احتواءِ كل تلكَ العتمة أنتَ في الحقيقةِ لستَ مُغرمًا بالعيشِ في الأوهامِ لكنكَ مع ذلكَ تعيشها رغمًا عنكَ ليس هذا بالشيءِ الغريب ، الغريبُ أنكَ تسعدُ بالأوهامِ وتتمنى أن لا تنتهي والأغربُ أنكَ تأبى تصديق الراوي مع أنّ الراوي لا يكذب العابرون من حولكَ يركضون ،، هاربونَ من الموتِ إلى المجهول والمجهولُ ليس جنةً بالضرورة الجميعُ في نظركَ حمقى لا يُدركون ما يُريدون لعلهم كذلكَ ، لكنهم يشتركونَ في غايةٍ لا يُدركها أبناءُ الترف ذلكَ هو حلمهم الذي تشبعت طرقهم برائحةِ احتراقهِ إنهُ حلمهم المحترق في مهده إنهُ حلم الإنسانية الفضاءُ يختنقُ بالعويل والليلُ من خلفهِ كالموتِ بارد ..كالموتِ بلا صوت الليلُ لا ينوي الرحيل ،، والحُلكة تأبى أن تنجلي والعتمةُ المطبقة لا تسع ذرّةً من ضياء وخلفها جميعًا يقبعُ عمرٌ كالحٌ يلتصقُ بفضائهِ قرصُ شمسٍ كاسفٍ على الدوام وحياةٌ كقميصٍ ضيّقٍ يخنقُ أكثر مما يستر لهُ جيبٌ مثقوبٌ تسّاقط منهُ الأماني
هناكَ ... قلبٌ يتلظى بالقهر إنّ المأساةَ الداميةَ في حياتهِ تُشبهُ الليلَ الحالكَ في قلبهِ البائس وهما يتحدانِ في الظُّلمة .. ويتفقان على القسوة إنه التافهُ الذي لا مكان لهُ في الإنسانية الفاجرُ الذي تدور في رأسه كل الأفكار الآثمة صيّرتهُ خيانةُ الأشياء - كل الأشياء - أشعثًا أغبرًا مغمورًا بالأسى العارم ضاقَ بهِ حتى الرصيف ،، الذي كان على الدوامِ بيته وضاقت بهِ أوراقُ الجرائدِ التي كان يفترشها ليغفو عليها سخرت منهُ كلّ الأشياء حتى النمل الذي لا يجد عندهُ فتاتَ خبز ! في قلبهِ تجتمعُ كل المتناقضات ويُمحى الحدُّ الفاصلُ بين المتضادات فيهِ الإيمانُ الكافر ،، والطفولةُ الهرمة تأمّل وجههُ الهرم سيطالعكَ في عينيهِ طفلُ السابعةِ يشكو إليكَ أن ليتني ما كبرت جفنهُ المرتعش يُواري عنكَ كلّ فصولِ المسرحيةِ خلا فصلٌ واحد ذلكَ الذي لا يتوارى طائعًا ولا يُوارى قسرًا فصلٌ كاملٌ دامٍ يصرخُ في كلّ شيء : ( إني إنسان ) لستَ محتاجًا لإرهافِ سمعكَ إنَ الصرخةَ في نظرتهِ / دمعتهِ / رعشةِ جفنه لهي من القوةِ بحيث تشقّ صدركَ وتكسّرُ أضلاعكَ وتفتّتُّ قلبكَ ( إني إنسان ) هذا فصلٌ كامل يختصر كلّ الفصول ويُلخصُ الألم إنهُ في كل لحظاتِ حياتهِ المعتمة ممتلئٌ بالظلام إنهُ القادرُ على إضرامِ النارِ في جسدهِ المشتعل أصلا بالقهر تركَ الوطنَ ليشبع بقميصِ الحياةِ الضيقِ ذي الجيب المثقوب وتركَ النملَ ليشبعَ برغيفٍ كاملٍ عند أبناءِ الترف وتركَ الجرائدَ تُحدّث الخلقَ بالأكاذيب وتركَ حيرةً ملء قلبي وعقلي .. أمُنتحرٌ هُو ، أم فدائيٌّ شهيد ..؟ ( كيف لا أبكي ؟ أجيبي يا بلادًا كلُّ ما فيها جديرٌ بالرثاءْ ) مما راااق لي