كما روما كانت بلوفديف ترتاح وسط 7 هضاب، تآكلت منها اثنتان بسبب المحاجر التي قضمتها عبر القرون. يعود تاريخ هذه المدينة إلى سنة 4000 قبل الميلاد، حين دبّت الحياة في مستوطنة العصر الحجري الحديث. لذا يقال إنها واحدة من أقدم المدن في أوروبا وكذلك أقدم مدينة سكنها الإنسان، حتى أنها كانت تنافس أثينا. سكن المستوطنة التراقيون Thracian وتحوّلت إلى مدينة يونانية رئيسية عرفت بـ بفيليبوبوليس في عهد ملك مقدونيا فيليب الثاني والد الإسكندر الكبير الذي اجتاح المدينة عام 342 قبل الميلاد، ثم أصبحت إحدى أهم المدن الرومانية، ومنذ ذلك الوقت وبلوفديف مدينة متناغمة مع إيقاع التاريخ المتغيّر.
لا تزال أصداء التاريخ السحيق تهمس خلف سياج منطقة الحفريات في وسط بلوفديف، ملمّحة إلى الأعمدة الرومانية المشيّدة على أطلال التراقيين عند منحدر التلّة، حيث تسيرين في شوارع ضيّقة حلزونية ملتفة صعودًا نحو التلة، لمدينة قديمة عرفت نهضة عمرانية دليلها هذه الشوارع المرصوفة بالحجارة التي تأخذك نحو الأعلى بحثًا عن تاريخها، فتجدين نفسك تنزلقين نحو الدروب المظلّلة حتى تصلي إلى المسرح الروماني في قلب بلوفديف.
المسرحالرومانيوهمسالتاريخ
هنا في المسرح الروماني تدخلين في لعبة الرجوع بالزمن إلى ما قبل التاريخ المكتوب الذي تشرف بلوفديف عليه، وكأنها تتلصص على مجد التاريخ القابع في أحضانها. يأخذك المسرح إلى عصر الرومان فتجدين نفسك تتقمصين إحدى أميراته، تجلسين على المدرج المتحلّق حول الحلبة البيضوية وتتخيلين الألعاب التي كانت تجرى هنا. من صمت التاريخ تخيلي هتاف الجمهور لمشهد معركة بحرية، وتنحبس الأنفاس عندما يحاول مصارع روماني صيد أسد، أو إعادة تمثيل المعارك الشهيرة أو مشهد درامي لأسطورة رومانية. كل هذا يحدث في مخيلتك مدعمًا بالأعمدة الشاهقة المغلّفة بالرخام الأبيض. ولكن يمكن أن تعودي إلى الحاضر وتشاهدي عرضًا موسيقيًا فتصدح في أرجاء المكان سمفونية تحملك إلى عالم بلوفديف الجميل. قلبالمدينةوأروقتهاالتيتنطقبكلتفاصيلالتاريخ
تتركين المسرح وعالمه وتتوجّهين إلى قلب المدينة التاريخي الذي يحكي بصمت نشوء بلغاريا التي أسّسها السلافيون عام 681 فتحوّلت في عهدهم إلى مدينة ذات ثقل استراتيجي وأصبحت قلعة حدودية مهمة للإمبراطورية البيزنطية. ترجّح الحكم في بلوفديف بين البلغاريين والبيزنطيين على مدى قرون، ثم جاء العثمانيون عام 1364 وسيطروا عليها تحت قيادة لالا شاهين باشا وبقيت عاصمة روميليا حتى عام 1382 حين استولى العثمانيون على صوفيا التي أصبحت المدينة الرئيسية للمقاطعة. تخلت بلوفديف عن ثوبها الشيوعي الذي ارتدته قسرًا بعد الحرب العالمية الثانية وأصبحت ضمن ما كان يعرف بالمعسكر الشيوعي لعقود، طُمست خلالها كل مظاهر التاريخ المديد وما تنمُّ عنه من ترف معماري يعكس حضارة الأقوياء الذين سيطروا عليها. تحضن المدينة 200 معلم تاريخي راهنًا، ثلاثون منها لها أهمية وطنية. فبلوفديف من المدن القليلة التي لديها مسرحان تاريخيان، أبراج وأسوار تعود إلى القرون الوسطى، حمّامات وجوامع تركية، وأحياء قديمة جميلة تخترقها شوارع ضيقة مرصوفة بالحجارة وأبنية متراصّة تتباهى بأناقة هندستها المعمارية وبألوانها الجميلة المزينة بعوارض الخشب، حاضنة بذلك نوستالجيا رقيقة لعصر النهضة البلغارية. أما الأطلال الرومانية فتكاد تكون في كل مكان، بعضها خرج إلى النور يستعرض أبهته فيما بعضها الآخر لا يزال مطمورًا ينتظر دوره في إبهار العصر الحديث. الوسطالتجاريوالمدينةالعتيقةوأسواقهاتدفعكللتسوّقبشغف
بالتجوال في شارع المشاة الرئيسي سوف تلاحظين مجموعة كبيرة من البوتيكات التي تعرض لدور الأزياء العالمية، فضلاً عن الأزياء لصاحبات الميزانية المحدودة. اللافت هنا أن الأسعار أقل مما هي عليها في العاصمة صوفيا والمدن الأوروبية الأخرى. صحيح أن شارع أولتيسا كنياز ألكسندر Ulitsa Knyaz Alexander هو الشارع التجاري الرئيسي ولكن هناك شوارع جانبية أخرى تتفرّع منه، الأسعار فيها منخفضة. أمّا إذا كنت تريدين حمل تذكارات بلغارية فعليك التوجّه إلى المحال التجارية في المدينة العتيقة وتحديدًا على طول شارع سابورنا Saborna حيث تجدين Gadgets مغناطيسية وأعمال السيراميك التي تشتهر بها بلغاريا والصحون الملونة والمزخرفة برسوم مشغولة يدويًا، ولوحات زيتية، كل هذا وسط شوارع ضيقة ومقبّبة، فتشعرين أنك وسط عالم القرن التاسع عشر وكأنك في متحف مفتوح لا تأبه معروضاته لمزاج الطبيعة مهما كان. بعد التسوق لا بد لك أن ترتاحي في أحد مقاهي الرصيف المنتشرة عند أقدام البيوت العتيقة المتجددة وتستمتعي بالروابي التي تزنّر المدينة. وإذا ما زرت بلوفديف لا يمكنك تفويت زيارة كيومدزيوغلو Kuyumdzioglu وهو تحفة معمارية تعود إلى عام 1847. شُيّد المنزل على النمط الباروكي، وكان مالك المنزل تاجرًا ثريًا جدًا أراد منزلاً يبتاهى به أمام أبناء طبقته الإجتماعية، ترك بلوفديف بعد ثورة التحرير البلغارية، وقد شُغل المنزل لأهداف عدة إلى أن تحوّل متحفًا Ethnographic Museum of Plovdiv. لقد خرجت بلوفديف من كواليس التاريخ التي عاشت فيها زهاء مئة عام لتكشف للعالم مدينة جميلة نابضة بالحياة والألوان والتاريخ والفن والثقافة، تغيرت أسماؤها من أومولبياس في زمن التراقيين، وفيليبوبوليس في عهد اليونانيين ثم بولبيديفا عندما استعادها التراقيون، إلى فيليب في عهد العثمانيين لتعود وتستقر على اسم بلوفديف، لتكون عاصمة للثقافة الأوروبية عام 2019. منهمالتراقيون
التراقيون سكان ما كان يعرف بإقليم تراقيا. عاشوا في قرى صغيرة حياة بسيطة، وكانوا يمارسون أعمال الزراعة وبعض الصناعات الأولية، ولم تكن لهم دولة تجمعهم، فكان رجالهم يعملون جنودًا مرتزقة في جيوش جيرانهم. ويعتقد اللغويون أن لغتهم تمت بقرابة إلى اللغة الفرنجية القديمة في آسيا الصغرى. تراقيا هي منطقة تاريخية وجغرافية في جنوب شرق البلقان تضم شمال شرق اليونان وجنوب بلغاريا وتركيا الأوروبية.