الحمد لله الذي فضل المتقين من أهل الإيمان، ووصفهم بالبذل والإحسان، وكظم الغيظ والعفو عن الإنسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو أهل التقوى وأهل المغفرة، له الحمد في الأولى والآخرة، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، خير من أعطى واتقى، وأكرم الناس خلقا وخلقا، فاللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بالتقوى، ومن العمل ما يحب ربنا ويرضى، قال تعالى:" يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور".
أيها المسلمون: لقد وصف الله تعالى عباده المتقين بأحب الصفات، وحلاهم بجميل النعوت والسمات، يسارعون إلى الخيرات، ويتنافسون لنيل أعلى الدرجات في روضات الجنات، فخيرهم موصول في كل الأحوال، وعطاؤهم لا يتوقف على السؤال، بذل الندى وكف الأذى لسان حالهم، والعفو والرحمة لكل الناس شعارهم، والصبر على الأذى وكظم الغيظ دثارهم، ملازمون للتوبة، أوابون من كل حوبة، يستحضرون دوما الذكر والاستغفار، ويقلعون عن المعاصي من غير تماد ولا إصرار، قال الله تعالى في وصفهم وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين* الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين* والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون* أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين)
أيها المؤمنون: لقد بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة الصفات الجليلة لعباده المتقين؛ التي يتحلون بها، فمنها صفة السخاء والبذل والعطاء، قال سبحانه:" الذين ينفقون في السراء والضراء" قال العلماء: أي في حال اليسر والعسر، والصحة والمرض، سواء في ذلك ما أنفقه المرء في حياته، أو ما أوصى به بعد مماته، فهم ينفقون في كل أحايينهم وأحوالهم، فصدقاتهم جارية، وآثار عطائهم في الناس سارية، لا يمنعهم من البذل هوى النفس أو الخوف من الفقر، وإنما دأبهم العطاء والجود، ونيل رضا الله تعالى المعبود، ونفع الناس وإغاثة الملهوفين، ومساعدة الفقراء والمحتاجين.
عباد الله: ومما وصف الله تعالى به عباده المتقين؛ كظم الغيظ، قال تعالى:" والكاظمين الغيظ" وكظم الغيظ هو حبسه في النفس ومنعه من السيطرة على الجوارح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذى يملك نفسه عند الغضب» وذلك هو منتهى الحلم والكرم، وغاية في تحمل الألم والتغاضي عن اللمم، كل ذلك ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى، والفوز بما أعده للصابرين، الذين يتحملون أذى غيرهم، ويقابلونه بالعفو والإحسان وفعل الخير لهم، فالاستسلام للغيظ والغضب يخل بمروءة المتقين.
وإذا غضبت فكن وقورا كاظما للغيظ تبصر ما تقول وتسمع
فكفى به شرفا تصبر ساعة يرضى بها عنك الإله ويرفع
فإذا غضبت يا عبد الله فاكظم غيظك، واستعذ بالله من الشيطان الرجيم يذهب عنك ما تجده من الغضب، قال سليمان بن صرد رضي الله عنه: استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس وأحدهما يسب صاحبه مغضبا، قد احمر وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وإن كنت قائما فاجلس حتى يذهب غضبك، قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تستاب وأنت صائم، فإن سبك أحد فقل: إني صائم، وإن كنت قائما فاجلس.
وكظم الغيظ والعفو عند المقدرة ثوابه عند الله تعالى عظيم، قال النبي صلى الله عليه وسلم :« من كظم غيظا -وهو قادر على أن ينفذه- دعاه الله عز وجل على رءوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره الله من الحور ما شاء».
أيها المسلمون: وثمرة كظم الغيظ العفو عن الناس أجمعين، وهو من الصفات الكريمة للمتقين، قال تعالى:" والعافين عن الناس"
قال أهل التفسير: العفو عن الناس أفضل أنواع فعل الخيرات، إذ هو صفح عن الزلات، وتجاوز عن السيئات، كرما وفضلا، وهو من الإحسان إلى الخلق، ولذلك وصف الله تعالى العافين عن الناس بالمحسنين، وبشرهم بمحبته لهم، قال جل في علاه:" والله يحب المحسنين" وانظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف عفا عمن أساء الأدب معه، بل وأحسن إليه صلى الله عليه وسلم وأمر له بعطاء، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجرانى غليظ الحاشية، فأدركه أعرابى فجبذه بردائه جبذة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك. فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك، ثم أمر له بعطاء.
فما أعظم خلق العفو وأكرمه، وما أجدرنا أن نتخلق به مع زوجاتنا وأبنائنا وأرحامنا وجيراننا، ومع كل من حولنا لنحظى بشرف النسبة للمتقين، الذين يعفون عن عباد الله أجمعين.
عباد الله: ومما خص الله تعالى به عباده المتقين من الأوصاف، ملازمة الذكر والاستغفار، قال تعالى:" والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم" أي الذين إذا ارتكبوا معصية من المعاصي تذكروا جلال الله تعالى وعظمته، فأقلعوا عن ذنوبهم، وتابوا إلى ربهم، وطلبوا العفو عما صدر منهم، وهذا هو حال المتقين، كما وصفهم رب العالمين، ملازمين لذكر الله تعالى، غير غافلين عن عظمته، حتى وإن تلبسوا ببعض المعاصي والذنوب، استحضروا جلال الله تعالى علام الغيوب، لأنهم يعلمون علم اليقين، أنه لا يغفر الذنوب إلا رب العالمين.
فاللهم اجعلنا من المتقين الذين يخشونك بالغيب، ووفقنا دوما لطاعتك وطاعة رسولك محمد صلى الله عليه وسلم وطاعة من أمرتنا بطاعته, عملا بقولك يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبسنة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم