الغفلة عن الغد !
إن شر ما يبتلي به المرء أن يغفل عن غده ، وعمّا ينتظره من مصير لا يدري ما الله - عزّ وجلّ - صانعٌ فيه..!
فالعاقل مَن نظر في العواقب والمآلات ، ولم يُشغل عنها بما زُين له من حب الشهوات ، فأعدّ لغده ما يسره من الباقيات الصالحات ..
والأحمق من انغمس في لذته الحاضرة ، وجعلها منتهي الآمال والغايات ، وغفل عن غده وعمّا ينتظره فيه من سوء المصير ومغبة النهايات .. !
ولقد نعي الله علي أقوام - فقدوا رشدهم ، وذهلوا عن آخرتهم مع سكرة الحياة ولذاتها - فقال جل شأنه: {إِنَّ هَؤُلاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْمًا ثَقِيلا} [الإنسان: ٢٧]
والحق ؛ إن حب العاجلة والذهول عن الآخرة جعل الكثير من الناس - إلا من رحم ربي - يلهثون وراء الشهوات ، ويعبّون من الملذات ، بصورة أدت إلي اغتيال القيم ، وخراب الذمم ، وإدمان الفساد .. !
وهذا من صنيع هيمنة الفكر المادي - قديما وحديثا - الذي جعل الكثير من الناس يعبدون اليوم الحاضر ، وينسون ما وراءه ..
ولأمر ما ، جاء اهتمام القرآن بدفع الناس وحثهم علي النظر فيما قدموه لغدهم ، وذلك بين أمرين بتقوي الله -عزّ وجلّ - : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر : ١٨]
وما ينظره الإنسان في غده ، هو ما يقدمه اليوم لنفسه ، فالإنسان هو الذي يصنع مستقبله بيده ، وما المرء إلا حيث يجعل نفسه .. ، وما يزرعه اليوم يحصده في غده ، إن كان خيرا فخير ، وإن كان شرا فشر .. {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة : ٨،٧] ، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [الجاثية : ١٥]
بل إن ما يقدمه الإنسان اليوم لغده من خير يباركه الله ، ويعظم له أجرا .. {… وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [ المزمل الآية٢٠]
وفي نهاية رحلة الإنسان من تطوافه في الحياة - سلبا كان أو إيجابا - فلم ولن يجد أمامه إلا ما قدمته يداه {.. يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ :٤٠]
ولذا ، ينبغي للإنسان أن يسأل نفسه - وهو ينظر لمستقبله في غده - : هل سأكون غدا من الأبرار أم - والعياذ بالله - من الفجّار ؟!
وهل سيذكرني التاريخ في موكب المقسطين المصلحين الأخيار ، أم في موكب الظالمين المفسدين الأشرار؟.
وهل سأكون غدا ممن سيأخذ كتابه بيمينه فيقول - وهو فرحان مسرور - : {هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ..} [الحاقة الآية: ١٩] إلي أن يُقال له - وهو في جنة عالية -: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة : ٢٤]
أم ممن سيأخذ كتابه بشماله فيقول - وهو محسور ندمان - : {.. يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ*مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 27-29]
ومما هو جدير بالذكر هنا ، قصة رمزية فيها من الدروس الجليّة بيد أنها تخفي علي القلوب العميّة ..
قالوا : "كان من عادة مملكة من الممالك ، أن تولّي عليها ملكا لمدة ما ، سنة أو نحوها ، ولكنهم يشترطون علي من يقبل الملك والتنعم به، أن يسيروا به في نهاية المدة إلي صحراء مجدبة لا ماء فيها ولا زرع ثم يجعلونه في هذه الصحراء ، لا يبرحها ، ولا سبيل إلي أن يجيئه طعام أو ماء ، حتي يموت المسكين ميتة تعسة من الجوع والظمأ ..
ومر بهم يوما سائح غريب ، فرآهم في حيرة وهرج ومرج ، فسألهم عن أمرهم فقالوا : لا نجد من يقبل أن يكون ملكا علينا ، فقال الرجل : وهل يرفض الملك عاقل ؟ فقالوا له : أتعرف ماذا نشترط علي من يتولي هذا الملك ؟ ، ماذا تكون عاقبته ؟ فقال : وماذا تشترطون ؟ ، قالوا : نشترط كذا وكذا.
فبهت الرجل ، وسكت قليلا ، وقال : أو ما عندكم غير هذا ؟ قالوا : هو ذلك فقط … فأطرق وفكر ودبر - وكان عاقلا أريبا - ثم رفع رأسه وقال لهم : قد قبلت ..
أقبل الرجل علي مُلكه يدير شأنه بسياسته الحكيمة ، ويقيمه علي سنة العدل ، ففرح الناس، وانتظمت أحوالهم، واتسعت ثروتهم .
ولكنه مع ذلك لم تلهه زينة الملك ، وأبهة السلطان عن مصيره الأسود الذي ينتظره في الصحراء المقفرة ؛ فأخذ يعمل جهده لتعمير هذه الصحراء ، فأوفد إليها المهندسين ليخططوا فيها حدائق وبساتين وقصورا، وأرسل العمال والآلات وكل ماهو ضروري لإنجاز هذه المهمة .. وما أسرع ماتم ذلك ، فشقت الأنهار، وجرت المياه العذبة ، وغرست الأشجار الجميلة .. وقام للملك هناك قصر جميل وقصور أخري لمن يحبون الإقامة هناك، حتي صارت الصحراء بذلك جنة فيحاء .
ومضت الأيام والناس يجهلون ماصنع الملك بالصحراء ، وانتهت المدة ، فأقبلوا عليه وقالوا : قد انتهت مدتك أيها الملك ، فتفضل إذاً إلي مصيرك بالصحراء ، فأجابهم في ثقة واطمئنان : نعم …
وعجب الناس لثباته ، فلم يضطرب ، ولم يزغ بصره من الهلع ، وساروا به نحو الصحراء ، وهم في عجبهم هذا لا يدرون سر اغتباطه وسعادته ، إلي أن بلغوا الصحراء ، فماراعهم إلا البساتين ، والحدائق ، والزروع ،والدور قائمة وسط هذا النعيم البهيج .!
فدُهِش الناس ، وأقبلوا علي الملك يسألونه : ما هذا ؟ فقال لهم : إن من تولي الملك قبلي شغلته لذته العاجلة ،عن أن ينظر في مصيره الذي ينتظره في النهاية ، أما أنا ، فلم تشغلني العاجلة ، عن بشاعة المصير المحتوم ، فدبرت له ما دبرت حتي إذا انتهت المدة انتقلت إلي مقام جميل ، فيه الرفاهة والخير الجزيل .
هنالك فرح به أهل المملكة وقالوا له : أيها الملك العاقل ، أنت الرجل الحكيم الذي لا يصلح أن يتولي أمرنا غيره ، فارجع بنا إلي العرش فإنا بك مستمسكون!..".
وفي ضوء ما انتهت إليه هذه القصة الرمزية من دروس وعبر ، نتساءل :
• أليست هذه القصة تعبّر عن واقع كل إنسان في أنه صائرٌ يوما ما - طال العمر أم قصر - إلي القبر ووحشته ، ثم إلي يوم الحشر وشدته.. ؟!
بلي وربي .. ، فإنه لا يعمل لمثل هذا اليوم ويستعد لغده إلا كل مؤمن عاقل ، ولا يتناسي مثل هذا اليوم ويذهل عن غده إلا كل أحمق غافل .
• هل العمل للغد والإقبال عليه ينافي الإقبال علي اليوم الحاضر ؟
كلا ، بل إن تعمير الغد لا يكون إلا بتعمير اليوم الحاضر بالعمل الصالح ، الذي يحقق للبشرية تقدمها وسعادتها ، ويحفظ للإنسانية حقوقها وكرامتها ، كما فعل الملك العاقل الأريب في القصة المشار إليها .
• كم حاكما - ممّن تولوا الحكم - ، أقام العدل ولم تشغله لذته العاجلة عن بشاعة المصير المحتوم الذي ينتظره ..؟
الإجابة في تاريخنا - للأسف - للقلبِ موجعةٌ وللنفسِ مؤلمةٌ ..
رحم الله أمير المؤمنين ( عمر بن الخطاب ) الذي أقام دولة العدل - التي أتعبت كل من جاء بعده -، فقد جعل - رضي الله عنه - لنفسه شعاعاً من نور ، بدّد به ظلمات الظلم والشهوات ، وسما به عن الانغماس في الحاضر والملذات ، فكان يردد دائما : ماذا تقول لربك غدا ياعمر ؟ !!
hgytgm uk hgy] !
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|