هدي نبينا المصطفى ▪●عليه افضل الصلاه والتسليم قِسِمْ خاص للدّفاعْ عنْ صفْوة
و خيْر خلقِ الله الرّسول الكريمْ و سِيرَته و سيرة أصحابِهِ الكِرامْ و التّابعينْ
فهذه المعاملة الكريمة من رسول الله تركت في نفس ثمامة أثرًا طَيِّبًا إلى درجة أنه غَيِّر دينه، وأسلم لله رب العالمين، دون ضغط أو إكراه، بل إن إسلامه وُلِدَ قويًّا إلى الدرجة التي دفعته إلى مقاطعة قريش من أجل أنها تحارب رسول الله ؛ مضحيًا بذلك بثروة هائلة كانت تأتيه من تجارته معها، ومضحيًا بعلاقات اجتماعية مهمة مع أشراف قريش.
عناية رسول الله بالأسرى
ولقد كانت القاعدة العامة التي حَثَّ عليها رسول الله في أول غزوة غنم فيها المسلمون أسرى هي: "اسْتَوصُوا بِهمْ -أي بِالأَسْرَى- خَيْرًا"[16]. وهذه المعاملة الحسنة التي أمر بها رسول الله للأسرى لم تكن مجرَّد قوانين نظرية ليس لها تطبيق في واقع الحياة، ولكنَّها تمثلت في مظاهر كثيرة تنبئ عن قلوب ملأتها الرحمة.
لذلك أنكر رسول الله ضرب غلامي قريش في أحداث بدر، إذ قال لأصحابه: "<a >إذَا صَدَقَاكُمْ ضَرَبْتُمُوهُمَا، وَإِذَا كَذَبَاكُمْ تَرَكْتُمُوهُمَا، صَدَقَا، وَاَللّهِ إنّهُمَا لِقُرَيْشِ.."[17]. فرغم كون هذين الغلامين من الجيش المعادي، وضربهما قد يكشف للمسلمين مناطق الضعف في الجيش القرشي، إلاَّ أن النبي استنكر ضربهما وتعذيبهما، وهذا الأمر ما عبّر عنه الإمام مالك رحمه الله؛ إذ سُئل: أَيُعذَّبُ الأسيرُ إن رُجِيَ أن يدلَّ على عورة العدو؟ قال: ما سمعت بذلك[18].
بل كان رسول الله حريصًا أيضًا على راحة الأسير البدنية والصحية ليُدرك - بما لا يدع مجالاً للشكِّ - أن هذا المنهج إلهيٌّ، وليس من صُنع البشر! إنه ليس من أحد أرحم بالعباد من الله ، ومن رحمته أنه أوصى برعاية الأسير حتى لو كان هذا الأسير كافرًا به وقد حرص رسول الله كل الحرص على تطبيق هذا المنهج الإلهي الرحيم؛ فخرجت لنا عدة مواقف نجزم أنها لا توجد في تاريخ أمة غير أمة الإسلام.
وقد تجلَّى حرص رسول الله في تعاملاته مع الأسرى في الاهتمام بمأكلهم؛ فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: أمر رسول الله أصحابه يوم بدر أن يُكرموا الأسارى، فكانوا يُقَدِّمُونهم على أنفسهم عند الغداء، وهكذا قال سعيد بن جبير، وعطاء، والحسن، وقتادة[19].
ولم يكن الصحابة رضوان الله عليهم يُقدِّمون للأسرى ما بقي من طعامهم، بل كانوا ينتقون لهم أجود ما لديهم من طعام، ويجعلونهم يأكلونه عملاً بوصية رسول الله بهم، وها هو أبو عزيز -شقيق مصعب بن عمير - يروي ما حدث بقوله: كنتُ في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خَصُّوني بالخبز، وأكلوا التمر لوصية رسول الله إيَّاهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلاَّ نفحني بها؛ فأستحي فأردها فيردّها عَلَيَّ ما يمسُّها! قال ابن هشام: وكان أبو عزيز هذا صاحب لواء المشركين ببدر بعد النضر بن الحارث[20]. فالرجل لم يكن شخصية عادية، بل كان من أشدِّ المشركين على المسلمين، فلا يحمل اللواء إلاَّ شجعان القوم وسادتهم! ولكن هذا لم يُغَيِّر من الأمر شيئًا؛ لأن الرحمة بالأسير أصل من أصول التعامل لا يجوز التخلِّي عنه تحت أي ظرف من الظروف.
ولم يقتصر المسلمون على إطعام أسراهم من المشركين؛ بل كانوا يُقَدِّمون لهم الملابس أيضًا، وهذا ثابت في الصحيح، فقد جعل البخاري –رحمه الله- بابًا في الصحيح سمَّاه: باب الكسوة للأُسارى ذكر فيه أن جابر بن عبد الله –رضي الله عنهما- قال: لمَّا كان يوم بدرٍ أُتِيَ بأسارى، وأُتِيَ بالعبَّاس، ولم يكن عليه ثوبٌ فنظر النبي له قميصًا فوجدوا قميص عبد اللَّه بن أبيٍّ يَقْدُرُ عليه[21]، فكساه النبي إيَّاه..."[22].
وورد أيضًا أن رسول الله أمر لأسرى هوازن بالكساء فقد أمر رجلاً أن يَقدم مكة فيشتري للسبي -الأسرى- ثياب المُعَقَّد[23]، فلا يخرج الحرُّ منهم إلاَّ كاسيًا[24].
التعامل بالرفق ولين الجانب مع الأسرى
ومن وصايا رسول الله البارزة في التعامل مع الأسرى الرفقُ ولين الجانب، حتى يشعروا بالأمن والطمأنينة، وقد كان من أخلاق رسول الله أنه كان يردُّ على استفسارات الأسرى، ولا يسأم أو يَمَلُّ من أسئلتهم؛ ممَّا يُوحِي بسعة صدره، وعمق رحمته التي شملت البشر جميعًا؛ ففي صحيح مسلم عن عمران بن حصين قال: كانت ثقيف حلفاء لبنى عقيلٍ، فأَسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله ، وأسر أصحاب رسول الله رجلاً من بني عقيلٍ، وأصابوا معه العضباء[25]، فأتى عليه رسول الله وهو في الوثاق قال: يا محمد. فأتاه فقال: "مَا شَأْنُكَ؟" فقال: بم أخذتني، وبم أخذت سابقة الحاجِّ[26]؟ فقال: "إِعْظَامًا لِذَلِكَ أَخَذْتُكَ بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِكَ ثَقِيفَ".
ثمَّ انصرف عنه فناداه، فقال: يا محمد، يا محمد. وكان رسول الله رحيمًا رقيقًا فرجع إليه، فقال: "مَا شَأْنُكَ؟" قال: إنِّي مسلمٌ. قال: "لَوْ قُلْتَهَا وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَكَ أَفْلَحْتَ كُلَّ الْفَلاَحِ".
ثمَّ انصرف فناداه، فقال: يا محمد، يا محمد. فأتاه فقال: "مَا شَأْنُكَ؟" قال: إنِّي جائعٌ فأطعمني، وظمآن فاسقني. قال: "هَذِهِ حَاجَتُكَ"[27].
فهذه الاستفسارات المتكرِّرة من الرجل لرسول الله -وهو القائد الأول للدولة الإسلامية- ومناداته باسمه مجرَّدًا يدلُّ على مدى الرحمة والإنسانية التي يحملها الرسول في قلبه لكل البشر.
ولعلَّ الأعظم من ذلك أن رسول الله كان يهتمُّ بالنواحي النفسية للأسرى ويحترمها كل الاحترام، ويظهر هذا الأمر بوضوح في أوقات الشدائد وبعد الحروب خاصَّة، فنجد النبي يوجِّه أصحابه الكرام توجيهات إنسانية راقية في شأن التعامل مع الأسرى من النساء والأطفال؛ فينهى عن التفريق بين الأُمِّ وطفلها؛ فعن أبي أيوب قال: "سمعت رسول الله يقول: "مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"[28].
ولعلَّ القصة التالية تكون خاتمة جميلة لهذا المقال؛ حيث تظهر فيها أخلاق رسول الله في التعامل مع الأسرى في أبهى صورها، فقد أتى أبو أُسَيْدٍ الأنصاري[29] بسبي من البحرين فَصُفُّوا، فقام رسول الله ، فنظر إليهم؛ فإذا امرأة تبكي؛ فقال: "ما يُبْكِيكَ؟" فقالت: بِيعَ ابني في بني عبس؛ فقال رسول الله لأبي أُسيد: "لَتَرْكَبَنَّ فَلَتَجِيئَنَّ بِهِ". فركب أبو أسيد فجاء به[30]!
لقد رقَّ قلب رسول الله للمرأة الأسيرة فأرسل أحد جنوده إلى بلد بعيد ليأتي لها بابنها، حتى يهدأ بالها، وتجفَّ دموعها!
ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نستقصي جميع تعاملات رسول الله التي تُظهر حقيقة سريرته، وحسن خُلقه في سلمه وحربه وتعاملاته كلها ولكننا اكتفينا ببعض هذه المواقف، والتي تدلُّ دلالة واضحة على كمال أخلاقه، وعظمة رسالته التي أوحى الله I به إليه.