03-03-2023, 12:51 AM
|
|
|
|
لقاء الرسول مع بني عامر
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: «وَحَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ أَتَى بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، فَدَعَاهُمْ إلَى اللهِ عز وجل، وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ -يُقَالُ لَهُ: بَيْحَرَةُ بْنُ فِرَاسٍ-: وَاللهِ، لَوْ أَنِّي أَخَذْتُ هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ، لأَكَلْتُ بِهِ الْعَرَبَ. ثُمَّ قَالَ: أَرَأَيْتَ إنْ نَحْنُ تَابَعْنَاكَ[1] عَلَى أمْرِكَ، ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللهُ عَلَى مَنْ خَالَفَكَ، أَيَكُونُ لَنَا الأَمْرُ مِنْ بَعْدِكَ؟ قَالَ: «الأَمْرُ إلَى اللهِ يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ». قَالَ: فَقَالَ لَهُ: أَفَتُهْدَفُ نَحُورُنَا لِلْعَرَبِ دُونَكَ، فَإِذَا أَظْهَرَكَ اللهُ كَانَ الأَمْرُ لِغَيْرِنَا! لَا حَاجَةَ لَنَا بِأَمْرِكَ. فَأَبَوْا عَلَيْهِ، فَلَمَّا صَدَرَ النَّاسُ رَجَعَتْ بَنُو عَامِرٍ إلَى شَيْخٍ لَهُمْ، قَدْ كَانَتْ أَدْرَكَتْهُ السِّنُّ، حَتَّى لَا يَقْدِرَ أَنْ يُوَافِيَ مَعَهُمُ الْمَوَاسِمَ، فَكَانُوا إذَا رَجَعُوا إلَيْهِ حَدَّثُوهُ بِمَا يَكُونُ فِي ذَلِك الْمَوْسِمِ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِ ذَلِك الْعَامَ سَأَلَهُمْ عَمَّا كَانَ فِي مَوْسِمِهِمْ، فَقَالُوا: جَاءَنَا فَتًى مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ أَحَدُ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ[2]، يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، يَدْعُونَا إلَى أَنْ نَمْنَعَهُ وَنَقُومَ مَعَهُ، وَنَخْرُجَ بِهِ إلَى بِلَادِنَا. قَالَ: فَوَضَعَ الشَّيْخُ يَدَيْهِ عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ قَالَ: يَا بَنِي عَامِرٍ، هَلْ لَهَا مِنْ تَلَافٍ[3]، هَلْ لِذُنَابَاهَا مِنْ مَطْلَبٍ[4]، وَالَّذِي نَفْسُ فُلَانٍ بِيَدِهِ، مَا تَقَوَّلَهَا إسْمَاعِيلِيٌّ[5] قَطُّ، وَإِنَّهَا لَحَقٌّ، فَأَيْنَ رَأْيُكُمْ كَانَ عَنْكُمْ؟»[6].
كانت قبيلة بني عامر بن صعصعة قبيلة كبيرة قوية عزيزة، وهي من القبائل القليلة في جزيرة العرب التي لم تَعرِف في تاريخها سبيًا لنسائها، ولا إتاوة تُدْفَع لغيرها، والمباحثات معها في غاية الحساسية، وقد ذهب إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم وعرض عليهم الإسلام، وحسَّنه في قلوبهم، وطلب منهم النصرة، وشجَّعهم عليها، فاستمعوا إليه وأنصتوا، ثمَّ تكلم زعيم من زعمائهم -هو بيحرة بن فراس- يخاطب بقية الزعماء، ويخاطب في الوقت نفسه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال كلمةً عجيبة صريحة! لقد قال: «وَاللهِ، لَوْ أَنِّي أَخَذْتُ هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ، لأَكَلْتُ بِهِ الْعَرَبَ»!
إذن كان بيحرة يعلم أن هذه الرسالة سيكون لها شأن كبير، ويرى أنه لو كان حاميًا لها مدافعًا عنها فإنه سيأتي وقت يُسيطر فيه على العرب أجمعين، وهذا وإن كان يدل على بُعْد نظر هذا الرجل فإنه يُشير بوضوح -أيضًا- إلى أنه رجل انتهازي نفعي لن يستجيب إلى هذه الدعوة اقتناعًا بقيمتها، أو إيمانًا بمبادئها؛ ولكن فقط حبًّا في الرئاسة والزعامة والسيطرة، وهذا خطر عظيم، ثمَّ إنه صرَّح بهذا الأمر علانية، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَرَأَيْتَ إنْ نَحْنُ تَابَعْنَاكَ عَلَى أمْرِكَ، ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللهُ عَلَى مَنْ خَالَفَكَ، أَيَكُونُ لَنَا الأَمْرُ مِنْ بَعْدِكَ؟» ها هو يُصَرِّح بوضوح بأنه يُريد الأمر لنفسه وقبيلته بعد ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكنه يجعل ذلك بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا قد يُعَدُّ في نظر السياسيين من أهل الدنيا نصرًا كبيرًا وتمكينًا؛ فالرجل سوف يُدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يَظْهَر دينُه وأمرُه، وسيترك له الأمر طوال حياته؛ ولكنه يُساوم على زعامة الأمر بعد وفاته، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبحث عن التمكين لنفسه لكان هذا عرضًا مغريًا جدًّا؛ لكنه صلى الله عليه وسلم كان شديد الحساسية لأولئك الذين يطلبون زعامة أو رئاسة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدوء عجيب، وفي ثقة متناهية: «الأَمْرُ إِلَى اللهِ، يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ»!
الولاية في الإسلام تكون لمن يستحقُّها؛ فلا يُوَسَّدُ الأمر في هذه الشريعة لغير أهله أبدًا، ولا يمكن قبول إسلام بني عامر نظير أن تكون القبيلةُ زعيمةً ولو بعد عشرات السنين؛ لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعطي كلَّ شيءٍ نظير إسلام الناس إلا الرئاسة والزعامة؛ لأن القائدَ للقوم يسيرُ بهم، ويُدَبِّر شئونهم، فإن كان في نفسه هوًى سار بهم بهواه، وهكذا يَضِلُّ ويُضِلُّ؛ لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعطي المال الكثير للناس حتى يتألَّف قلوبهم، ولو طلبوا مالًا أكثر أعطاهم وأعطاهم وأعطاهم؛ لكنهم لو طلبوا ولاية ما أعطاهم أبدًا، ولو كانوا من أعزِّ أصحابه، أو أقرب أقربائه.
قال أبو ذر الغفاري رضي الله عنه: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا تَسْتَعْمِلْنِي؟ فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مِنْكَبِي ثمَّ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا»[7]. وقال عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، لَا تَسْأَلِ الإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا»[8]. بل صرَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هو أوضح من ذلك؛ فلم يجعل الأمر على سبيل النصيحة فقط؛ بل جعله تشريعًا ثابتًا، فقد قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَرَجُلانِ مِنْ بَنِي عَمِّي، فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمِّرْنَا عَلَى بَعْضِ مَا وَلَّاكَ اللهُ عز وجل. وَقَالَ الآخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّا وَاللهِ لَا نُوَلِّي عَلَى هَذَا الْعَمَلِ أَحَدًا سَأَلَهُ، وَلَا أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ»[9].
إن فتنة الزعيم لا تعود عليه وحده؛ بل تعود على الأُمَّة جميعها، فالإنسان الطامع في الزعامة سيرتكب كلَّ الموبقات من أجل الفوز بها، ثم الحفاظ عليها! سيكذب هذا الزعيم، ويُزَوِّر، ويقتل، ويداهن العدو؛ بل يتعاون معه، كل ذلك ليستمرَّ في زعامته. والزعيم الذي يحيا لدنياه يُهمل دنيا الناس، وإذا اتخذ قرارًا ظالمًا فسيظلم به شَعْبًا كاملًا، وإذا انحرف في طريق خاطئة أخذ الناس كلهم معه؛ لأجل هذا رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم شرط بيحرة بن فراس، وجاء هذا الرفض القاطع وهو في أمسِّ الحاجة إلى نُصرة؛ لكنه فعل ذلك ليضع لنا قواعد واضحة، وأسسًا ثابتة، وليت المسلمين يُعيدون قراءة السيرة مرارًا، ليُدركوا أن ما يعتبرونها أحيانًا فرصًا كبيرة لا بُدَّ من انتهازها ما هي في الواقع إلا انحرافات خطيرة لا بُدَّ من الحذر منها!
وبالطبع رفض بيحرة وبنو عامر الانضمام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بيحرة في تعجب: أَفَتُهْدَفُ نَحُورُنَا لِلْعَرَبِ دُونَكَ، فَإِذَا أَظْهَرَكَ اللهُ كَانَ الأَمْرُ لِغَيْرِنَا! لَا حَاجَةَ لَنَا بِأَمْرِكَ.
ولقد ظلَّ بيحرة بن فراس على كفره، حتى مات كذلك، ولم تنفعه كلمات الشيخ الكبير الحكيم الذي رجعوا إليه بعد عودتهم إلى بلادهم؛ ذلك أن حبَّ الزعامة يُعمي القلب، فلا يرى أبدًا شيئًا غيرها، وهذا الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوَّف علينا منه!
[1] وفي رواية: بايعناك. ابن هشام: السيرة النبوية 1/424.
[2] هم بذلك التعبير يُعَظِّمون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم يقولون: إنه ليس من قريش فقط؛ ولكنه فوق ذلك من أولاد عبد المطلب، وكان عبد المطلب من أشهر العرب في الشرف والمكانة.
[3] هَلْ لَهَا مِنْ تَلَافٍ؛ أَيْ تَدَارُكٍ، وَهُوَ تَفَاعُلٌ مِنْ تَلَافَيْتُهُمْ. السهيلي: الروض الأنف 4/33.
[4] وَهَلْ لِذُنَابَاهَا مِنْ مَطْلَبٍ: مَثَلٌ ضُرِبَ لِمَا فَاتَهُ مِنْهَا، وَأَصْلُهُ مِنْ ذُنَابَيِ الطَّائِرِ إذَا أَفْلَتَ مِنَ الْحِبَالَةِ فَطَلَبْتَ الْأَخْذَ بِذُنَابَاهُ. السهيلي: الروض الأنف 4/33. والذُّنابَى: مَنْبِتُ الذَّنَبِ، وذُنابَى الطَّائرِ ذَنَبُه. ابن منظور: لسان العرب، 1/389، والْحِبَالَة: ما يُصاد بها من أَيِّ شيء كان. ابن منظور: لسان العرب، 11/134.
[5] مَا تَقَوَّلَهَا إسْمَاعِيلِيٌّ قَطُّ؛ أَيْ: مَا ادَّعَى النُّبُوَّةَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي إسْمَاعِيلَ عليه السلام قبل هذا الرجل -أي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقصد شيخهم أنه لو كان هناك مَنْ يقول هذا القول قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان هناك شكٌّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مثلَ قوله، لكن ما دام أنه لم يَقُل أحد قبل ذلك هذا الكلام فهو على الأغلب صحيح غير كاذب.
[6] ابن هشام: السيرة النبوية 1/424، 425، والطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/350، وابن حبان: السيرة النبوية 1/102، وابن الأثير: الكامل في التاريخ 1/687، والذهبي: تاريخ الإسلام 1/286، وابن كثير: البداية والنهاية 3/171، والسيرة النبوية 2/157، 158.
[7] مسلم: كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة، (1825)، وأحمد (21552).
[8] البخاري: كتاب الأحكام، باب من لم يسأل الإمارة أعانه الله عليها، (6727)، ومسلم: كتاب الإمارة، باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها، (1652).
[9] البخاري: كتاب الأحكام، باب ما يكره من الحرص على الإمارة، (6730)، ومسلم: كتاب الإمارة، باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها، (1733)، واللفظ له.
grhx hgvs,g lu fkd uhlv lrhg hgvs,g uhlv
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
2 أعضاء قالوا شكراً لـ رحيل المشاعر على المشاركة المفيدة:
|
|
تعليمات المشاركة
|
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك
كود HTML معطلة
|
|
|
الساعة الآن 06:37 PM
|