جاء في الخبر أن رجلا في أحد الأيام وصل لمملكة كان غريبا عنها، ودخل بها وأخذ يتجول وينادي في شوارعها قائلا: “إنني رجل سياسي لدي القدرة على حل كل الخلافات والنزاعات، وأستطيع الإصلاح بين كل المتخاصمين مهما بلغ الخلاف والخصام بينهم”.
فسمعه الملك وهو ينادي، وأرسل رجاله في طلبه، وعندما جاء الرجل سأله الملك: “أأنت سايس؟!، خبر سار لأني أملك فرس عنيدة ولا أحد تمكن من ترويضها وتدريبها، استلمها في الحال وقم أنت بهذه المهمة ربما تفلح بها”.
الرجل باحترام وإجلال: “ولكني يا مولاي أنا رجل سياسي ولست بسايس خيول، إنني رجل سياسي أصلح العلاقات التي خربت بين الناس، ولا أفهم مهنة سياسية الخيول وتدريبها وكيفية ترويضها من الأساس”.
الملك: “ماذا بك؟!، إنه أمر، أتعصي أوامري؟!”
الرجل: “العفو يا مولاي”.
الملك: “إذاً اذهب واعتني بها جيدا”.
الرجل وقد بات مذعورا من تغير نبرة صوت الملك: “أمرك يا سيدي”.
وبالفعل ذهب الرجل السياسي وعمل سايسا لفرس الملك رغما عنه وعنوة، وأمر له الملك بوجبتين يوميا أرز وحساء.
داوم الرجل على تربية فرس الملك لعدة أيام، وأول ما أتته الفرصة هرب، ولكن رجال الملك قبضوا عليه وقدموا به للملك.
كان الملك غاضبا للغاية، فسأله: “ما الذي جعلك تهرب من تربية فرسنا؟!، هل وجدت بها عيبا اضطرك للفرار عنها بعيدا؟!”
فقال الرجل: “سأخبرك عن العيب الذي بها ولكن امنحني أولاً الأمان”.
فقال الملك: “منحتك الأمان فتحدث”.
قال الرجل: “يا مولاي الملك إن فرستك أصيلة ولاريب في ذلك، ولكنها يا مولاي لم ترضع من حليب أمها”.
غضب الملك وصرخ في وجه الرجل واتهمه بالكذب، ولم يكتفي بذلك وحسب بل زج به في السجن، وأرسل في طلب سائسه السابق، وأول ما قدم صرخ في وجهه قائلا: “من أين أرضعت فرسي، وأجبني في الحال وإلا جعلتك نادما طوال حياتك”.
فقال السائس: “يا مولاي بيوم ولادة فرسك توفيت أمها، ولم أجد حليبا لأرضعه إياها إلا من البقرة التي بالحظيرة، وأخفيت عنك الأمر خوفا من غضبك”.
أمر الملك بإحضار الرجل السياسي من السجن، وعنا جيء به سأله قائلا: “خبرني كيف علمن بأن فرسي ليست بأصيلة؟!”
فأجابه الرجل قائلا: “يا مولاي إن الفرس الأصيل لا يبحث عن العشب والكلأ بل ينظره يأتيه وهو مرفوع الرأس؛ أما فرسك فكانت تطأطأ رأسها كالبقر وتبحث عن طعامها”.
أعجب الملك كثيرا بفراسته وذكائه المتقد، فأمره في الحال بأن يكون مستشارا لزوجته الملكة.
رفض الرجل هذا العمل والذي من الممكن أن يكون سببا في هلاكه، فالملك لم يقبل كلمة وحدة عن فرسته فماذا سيفعل إن وجد شيئا بزوجته الملكة؟!
بالتأكيد حينها سيأمر بقطع رقبته، كل هذه الأفكار جالت في خاطره؛ ولكن الملك هدده بالقتل إن لم يمتثل لأوامره، وما كان من أمر الرجل إلا أن قبل عنوة كما كان من قبل.
سر الملك بقبول الرجل العرض، وأمر بتزويده بدجاجتين في الغداء والعشاء.
وبالفعل عمل الرجل مع زوجة الملك عدة أيام ثم فر هارباً، ولكن كالمرة السابقة قبض عليه رجال الملك وأعادوه للملك ليتكرر معه نفس السؤال: “ماذا وجدت في زوجتنا الملكة ليجعلك تفر هارباً؟!”
سأله الرجل: “وهل ستمنحني الأمان إذا أخبرتك بما وجدت؟!”
فأجابه الملك: “بالتأكيد سأمنحك الأمان اطمئن ولا تقلق من شيء”.
فقال الرجل: “يا مولاي إن زوجتك ملكة ولكنها ليست ابنة ملوك كما تعتقد”!
ودون تفكير أمر رجاله بزجه بالسجن، وسافر في الحال لوالد زوجته بالمملكة المجاورة، وعندما اختلى به بعيدا عن الأنظار، وضع السيف على رقبته سائلا: “أخبرني في الحال حقيقة نسب ابنتك لك”!
فأجابه: “إنها ليست من صلبنا، عندما بلغت ابنتي العامين من عمرها مرضت مرضاً شديدا، وتوفيت إثره؛ كنت في الأصل قد تعاهدت مع والدك بأن نزوجكما، وعندما توفيت ابنتي أحضرت ابنة من الغجر وربيتها كأنها ابنتي، وعندما كبرت زوجتك إياها”!
رجع الملك للقصر، وأمر بإخراج الرجل من سجنه، سأله: “كيف أمكنك أن تعلم سر زوجتي؟!”
فقال الرجل: “يا مولاي إن من طباع الغجر أنهم يغمزون حين يتكلمون، وزوجتك كثيرة الغمز في الكلام”.
ازداد الملك إعجاباً بفراسة الرجل، وفي هذه المرة أمره بأن يكون في خدمة والدته الملكة، وبكل تأكيد رفض الرجل بشدة هذه المهمة الجديدة والتي لن يرحمه فيها الملك، وبالتأكيد إن وجد شيئا بوالدته فسيكون الموت هو مصيره الوحيد ليدفن معه سر الملك ووالدته.
ولكن الملك لم يأذن له على الإطلاق بالتهرب من أمره، فهدده ككل مرة بالقتل إن لم يمتثل لأوامره، ومجبورا مغلوبا على أمره قبل الرجل العمل خادما لوالدة الملك.
سر الملك بموافقة الرجل وأمر رجاله بأن يضعوا له خروفا بالغداء وخروفا بالعشاء.
خدم الرجل والدة الملك عدة أيام، وفر هارباً وكالسابق ألقى رجال الملك وحراسه عليه القبض، وجاءوا به للملك.
الملك سأله في غضب شديد: “وماذا وجدت في أمنا هذه المرة يجعلك تفر هرباً حتى لا تتواجه معي به؟!”
سأله الرجل وكان متلعثما في الكلام: “وهل ستمنحني الأمان إن أخبرتك يا مولاي؟!”
فأخبره الملك: “لك هذا، ولكن نطق بما رأيت في الحال وإلا فصلت رأسك عن جسدك”.
فقال الرجل متهتهاً: “يا مولاي إن جلالتك لست… ابناً لأبيك”!
فاستشاط الملك غضبا وثار هائجاً في وجهه: “أجننت أنت؟!، ماذا ظننت نفسك بأنك فاعل؛ يا حراس ألقوا به في السجن حتى يتعفن بداخله”.
ذهب إلى والدته وكان حينها لا يبصر أمامه من شدة الغيظ، أمر كل الخدم بالخروج من غرفة والدته، بعدما اطمئن بعدم وجود أحدهم سأل والدته في غضب: “هل أنا ابن الملك؟!”
حاولت والدته التهرب من سؤاله، ولكنها علمت الحالة التي صابته وخشيت من بطشه، فاستسلمت بالنهاية وأجابته قائلة: “يا بني إن زوجي الملك كان رجلا عقيما لا ينجب الأبناء، وعلى الرغم من ذلك كن يتزوج بكل عام فتاة من المملكة وإذا أكملت التسعة شهور ولم تنجب ذبحت أمام عينيه حتى جاء الدور علي، فتزوجني وجعلني بقصره ولكني لم أرغب بالموت والذبح كزوجات الملك السابقات، لذلك اختليت بطباخ القصر فعاشرني معاشرة الزوجات، وحملت بك”!
عاد الملك وأمر بإحضار الرجل من السجن، وعندما أتوا به أمرهم بالخروج في الحال، وسأله قائلا ولا تزال علامات الغضب تملأ وجهه: “وكيف لك أن تعلم سراً خطيرا كهذا؟!”
فقال الرجل: “يا مولاي إن الملوك يكافئون بالذهب والنقود، ولم أجد ذلك في جلالتك فقد كنت تكافئني بالطعام، وهذا الأمر لا يفعله غير الطباخون”!