جمال الدين أبو المجد (أبو الدر) ياقوت بن عبد الله الرومي الطواشي المستعصمي الأديب الخطاط المجود، أصله من أماسية في بلاد الروم، جُلب منها إلى بغداد فاشتراه الخليفة العباسي الأخير المستعصم بالله صغيراً، ورباه في دار الخلافة واعتنى بتعليمه ودفعه إلى شيوخ العلم في قصر الخلافة، فألم بعلوم الدين.
وأتقن علوم اللغة والأدب واستظهر شعر القدماء ونثرهم، وتعلم الخط على أعلامه ببغداد حتى حذقه، فصار من أعلام الأدب المعروفين ومن رؤوس الخطاطين المشهورين يقصده طلبة الخط من البلاد العربية والإسلامية كلها، ويفخرون بالأخذ عنه والتدرب على يديه وظل يشتغل بالخط وتعليمه والأدب ونظم الشعر إلى أن توفي ببغداد، وقد أسن وقارب الثمانين.
كان أبو المجد المستعصمي ذا مكانة مرموقة عند أهل عصره، مقرباً عند أصحاب الحكم ببغداد وأعيان الدولة، يكلفونه تعليم أولادهم الخط المنسوب، وهو الخط الذي يؤدى وفق قواعد ثابتة وقوانين معروفة، وقد أنشأ كُتّاباً ببغداد لتعليم الصبيان الخط، فتخرج عليه خلق كثير، صار بعضهم من الخطاطين المشهورين في أزمانهم.
وإلى جانب إتقانه الخط أتقن الأدب، فعُد من العلماء ذوي الفصل، ومن الأدباء ذوي الإبداع في النثر والشعر، يميل إليه الأدباء ويقدرونه حق قدره، ويطارحونه الشعر، وكان مكثراً منه، ينظمه في المدح والوصف والغزل والحكمة، وقد اتسم شعره بالمتانة والانسجام وصدق اللهجة، وجودة المعاني والصور، لم يلتفت إلى الصنعة البديعية، ولم يجعلها موضع اهتمامه مثل معاصريه، بل استرسل في أداء أفكاره ومعانيه وإبراز مشاعره وأحاسيسه وتشكيل صوره بأسلوب ذاتي من غير تصنع أو إظهار الثقافة، وإن لم يخرج في مضامينه وطرائق أدائه عن سنن القدماء في شعرهم.
وكان المستعصمي مصنفاً، ترك عدداً من المصنفات التي جمعها مما قرأ وسمع، منها كتاب «أسرار الحكماء» وهو مجموع أقوال منسوبة إلى أفلاطون في بناء سياسة الملوك، وفي بيان الأخلاق الطبيعية والمكتسبة، التقطها أبو المجد من كتب السابقين ونسقها وعقب عليها. والكتاب مطبوع، وله كتاب «أخبار وأشعار ومُلح وفقر وحكم ووصايا منتخبة» أنهاه في سنة وفاته، وهو مطبوع.
وتدل مصنفاته أنه كان يقرأ كثيراً في علوم مختلفة، ويُسجل ما يعجبه من قراءاته، وهذا يعني أنه كان صاحب ثقافة كبيرة واسعة، أهلته للمشاركة المتميزة في النشاط الثقافي في أيامه، وربما كان عمله في النسخ وراء تحصيله لثقافته، وجمعه لمختاراته.
ومن شعره قوله في تنبيه الغافلين عن الموت، الذين استغرقتهم ملذات الحياة وألهاهم متاعها:
أتعتقدون أن المُلك يبقى وأن العيش في الدنيا يدوم
ولايجري الزوال لكن ببال كأن الموت ليس له هجوم
فهبكم نلتم ما نال كسرى وقيصر والتبابعة القروم
ومتعتم بذلك عُمر نوح وحفتكم بأسْعُدها النجوم
أليس مصير ذاك إلى زوال لعمر أبي لقد هفت الحلوم
وقوله في الغزل، وقد أجاده وضارع فيه أعلامه المشهورين:
صدقتم في الوشاة وقد مضى في حبكم زمني وفي تكذيبها
وزعمتم أني مللت حديثكم من ذا يمل من الحياة وطيبها