الفنان الهولندي «رامبرانت هرمنسزون فان راين» الذي ولد في «لابرن» بهولندا عام 1606م، واستقر في مدينة أمستردام منذ عام 1631م. تميزت أعماله بالقوة التعبيرية الكبيرة، ولوحاته الشخصية المتعددة؛ نظراً لمعرفته العلمية بنظريات الضوء والظلال. واحتوت لوحاته على القيم الإنسانية النبيلة، وعلى أفكاره وتأملاته الشخصية حول مصير الجنس البشري. كل ذلك جعله يُعد من ضمن كبار أساتذة فن الرسم الغربي. وهو من أكثر الفنانين شهرة في أوساط متذوفي الفن، وقد شهد جميع التشكيلين بعبقريته ونبوغه.
لماذا رسم رامبرانت نفسه كثيراً؟
عند البحث في لوحاته، وجد له أكثر من ثلاثة وأربعين صورة شخصية، رسمها رامبرانت لنفسه، وهذا العدد الهائل من البورتريهات التي نادراً ما يفعلها رسام آخر، وهو رسام يمتلك مفهوماً خاصاً عن الحياة، وله رؤيته الخاصة به، وكان متأثراً جداً بالرسام الإيطالي «كرافادجو»، ولكنه كون شخصيته المتفردة؛ يرجع البعض كثرتها إلى أن مفهوم شخصية الرسام تفرض ملامحها على أي عمل له، وكذلك كثيرون فعلوا الشيء نفسه مثل بيكاسو ورينوار وفان جوخ وغيرهم. إنهم جميعاً شخصيات طاغية ولابد أن تكون هذه الشخصيات هي اللوحة، مهما حاولت إخفاء ملامحها، لهذا بدأ رامبرانت في اللوحة، وكان أكثر نضجاً عندما رسم لوحته. درس التشريح، وبدأ يستخدم الأشخاص، لتجسيد الحدث بصورة صارخة، ولا يوجد أي استحياء كما في درس التشريح، وكان المهم بالنسبة له هو تصوير الفعل وإكسابه الحياة وتغليفه بفلسفة رامبرانت نفسه، واستخدامه للضوء والظل بأسلوب مذهل لصنع دراما حياتيه، فما يهمه هو الحياة نفسها وليس الأشخاص، فهو يعبر عن الحياة بغض النظر عن التصوير التسجيلي لشخص بعينه. وبعد إتمام اللوحة فوجئ من أرادوا تصوير أنفسهم بهذه اللوحة التي هي الآن مفخرة لهولندا لدرجة استخدامها في الدعاية السياحية «يضعونها وبجوارها لوحة مكتوب عليها زوروا هولندا لتشاهدوا حراس الليل». وعندما يرسم نفسه فهو لا يهمه مطلقاً أن يسجل ملامحه؛ لكن الأهم هو أنه يصور مفهومه من خلال هذا الذي يراه في المرآة.
وفسر البعض أن رسام البورتريه في فترة البداية يتمرن فيها على رسم صورته من خلال المرآة أكثر من مرة، وربما بعدها لا يرسم نفسه مرة أخرى إلا إذا وجد وجهه معبراً عن مفهوم جديد. وحياة رامبرانت تفاوتت بين الغنى والفقر المدقع، وحتى في لحظات ثرائه كان شديد التبذير، ومن وجهة نظر من حوله يقوم بشراء إكسسوارات وملابس تاريخية لترتديها موديلاته أثناء رسمه لهن، وأيضاً يقوم بشراء لوحات لرسامين آخرين، وسرعان ما يفقد ثروته التي تحصل عليها. والأحداث التي مرت بحياته من موت زوجته وموت أبنائه كانت قاسية، وهو بالإجمال شخصية حزينة، ولكن بها شيء من المرح، والكثير من الفلسفة. ولم يقبل عليه الناس كثيراً لرسمهم لأنه فيلسوف البورتريه، والناس تريد صورة ظريفة تعلقها في الصالون، لذلك كان على الدوام هو الموديل الأصدق والأكثر تعبيراً عن مفهومه، ودائماً الرسام عندما يواجه نقص الموديلات يشعر بكارثة، ويتجه في أغلب الأحيان لنفسه، بالذات لو كان رسام بورتريه، ومن هنا كان العدد الغزير من الصور الشخصية، وهي بالأسكتشات والمخططات المبدئية والليثوغراف؛ تبلغ نحو تسعين بورتريه.
أعمال رامبرانت
اشتهرت أعمال رامبرانت عندما بدأ بالرسم بماء الذهب، وقد رسم لوحاته (التجار الثلاثة، قطع المئة فلورات النقدية، يسوع يبشر الناس)، وقد عالج موضوعاته بأسلوب مسرحي انفعالي. ومن بين أعماله المشهورة والمحفوظة في متحف ريكسموزيوم في أمستردام: والدة رامبرانت (1660)، جولة في الليل (1662)، القديس بطرس (1660)، وكلاء الجواخون (1662)، الخطية اليهودية (1665). وأعمال أخرى محفوظة في متحف اللوفر بباريس، منها: «على طريق عماوس»، و»هندريكية شتوفلس 1662»، و»بيت شيبع أو بيت صورني» و»فقع عين سامسون»، «عودة الابن الضال»، «عشاء عند أموس»، و»دورية الليل». ومن أبرز لوحاته التي رسمها: «التاجر نيقولاس روتس والشاعر جان كرول، وامرأة شابة ورجل جالس على معقد». ورسم برامبرانت ثماني لوحات لوالديه، واثنتي عشرة لوحة لشقيقته إليزابيث، وخمس لوحات لزوجة شقيقه دراين، ورسم الكثير من اللوحات والتخطيطات لزوجته ساسكيا، وبين العامين 1626 627 رسم رامبرانت لوحاته «**** بالما، والقديس بول، والبخيل»، وتأثرت هذه اللوحات بالفن الإيطالي. وفي عام 1632 رسم رائعته «درس التشريح للدكتور تولت»، وفي عام 1644 بعد إكمال لوحته الشهيرة «الحراسة الليلية» توفيت زوجته ساسكيا، وبدأ يصنع محفورته «100 غالدر».
حياة رامبرانت الضاحك الباكي
ولد رامبرانت لأبوين فقيرين في 15 يوليو 1606 بمدينة ليون، وعاش مكافحاً طوال حياته، إلى أن جمع ثروة هائلة بسبب شهرته التي انتشرت في كل مكان، وفى بداية حياته التحق رامبرانت بكلية الفلسفة في جامعة ليون، ثم ما لبث أن ترك الكلية عام 1622م، ليدرس الرسم على يد أحد الرسامين الهولنديين، وبعد ثلاث سنوات أسس مرسماً صغيراً ليبدأ رحلته في عالم التشكيل.
وقد شهد تاريخ الفن لرامبرانت بالتميز والإبداع، حيث مثل أحد ركائز الفن التشكيلي الأوروبي في القرن السابع عشر، وتميز بغزارة أعماله، إذ نسب إليه أكثر من 600 لوحة.
ومأساة حبه التي جمعت بين الفرح والحزن، وبين الرومانسية والتراجيديا، أنه أحب الفتاة ساسكيا حباً جماً، وتزوج منها في 22 مايو 1634م، وكانت ساسكيا فتاة جميلة، وكان كلاهما يأمل في حياة سعيدة بهذا الزواج؛ إلا أن الرياح تأتى دائماً بما لا تشتهى السفن، فقد مات وليدها الأول والثاني والثالث، وكانت الضربة القاسمة لـ»رامبرانت» بالمولود الرابع فقد عاش المولود هذه المرة ولكن أمه ساسكيا هي التي ماتت في 24 يونيو عام 1642م، وكانت وفاة ساسكيا نقطة تحول في حياة رامبرانت، فقد انقلبت حياته حزناً وألماً على فراقها، فانطوى على نفسه ليعيش حزنه ومأساته، وتبددت ثروته التي جمعها طوال حياته. وتوفي رامبرانت قبل أن يكمل لوحته «سمعان والطفل يسوع في الهيكل». إنه بحق عملاق الفن التشكيلي والعاشق المعذب.