إيبلا المملكةُ المفقودةُ التي غيّرت تاريخَ العالم
إيبلا هي مملكةٌ سوريةٌ قديمةٌ قامت في تلِّ مرديخ، تبعُد عن حلب حوالي 55 كم. ازدهرت في منتصف الألفِ الثالثِ قبلَ الميلاد، امتدّت المناطقُ التي كانت تحكمُها من الفرات شرقاً حتى سواحل المتوسط غرباً، ومن طوروس شمالاً، حماه جنوباً,أمّا نشاطُها التجاريّ فقد امتدّ إلى أكثرَ من ذلك بكثير.
عَرفت إيبلا نظامَ حكمٍ انفصلت فيه السّلطة الدينيّة عن المدنية، وكان الملكُ رأس الدولة. وإلى جانب الملك كان مجلسُ (الآبا)، وهو يعادلُ مجلسَ الشيوخِ، وكانت مهمّته مراقبةُ ممارساتِ الملك للسّلطة. ويلي الملك في المرتبة مسؤولٌ يُدعى (لوغال) أو حاكم المقاطعة، وتذكرُ النصوصُ أربعةَ عشرَ حاكماً، وهذا يعني أنّ إيبلا كانت مقسّمةً إلى أربعَ عشرة مقاطعة.
أمّا من الناحيةِ الدينيّة فقد اتّصفت إيبلا بصفتين، وهما تعدّدُ الآلهة وسيادةُ الآلهةِ الكنعانيّةِ في مجمَع الآلهة. فقد عَبدَ سكانها آلهةً مختلفةً ذكوراً وإناثاً، ومنها: نيداكول ودجن وإله الشمس وككاب إله النجم ورشف إله الطاعون والعالم السفلي وأشتار وعشتارت وليم وأدا (حدد) إله الطقس، إضافةً إلى الآلهة السومرية والحوريًة مثل: أنكي ونينكي وأشتابي وخبات. كما قدّسوا الأسلافَ والملوك.
فقدت إيبلا مكانتَها واستقلالَها مع ماري وكيش، وخضعت لأسرةِ شاروكين الأكّادي على يدِ الملك نارام سين، وكان ذلك بعد أن أحرقَ المدينةَ كلّها حوالي عام 2250 ق.م.
ذُكِرت إيبلا في وثائقَ مسماريّة تعود إلى عصرِ سرجون الأول مؤسّس الإمبراطورية الأكادية، كما ذُكِرت بوثائقَ تعودُ لعصرِ حفيدِه نارام سين. كما ورد ذكرُها في نصوصِ سلالةِ أور الثالثةِ وذُكرت في نصوص تعود للعصرِ الآشوريّ القديم. إلا أنّه لم يتمّ معرفةُ مكانِ إيبلا التي تمّ ذكرُها في العديد من هذه النصوص والوثائق حتى القرن العشرين. وفي عام 1955 في موقع تل مرديخ عثر فلاحٌ بمحراثِه مصادفةً على جزءٍ من حوضٍ منحوتٍ ومزيّنٍ بأشكالٍ نافرة، زُيِّن جانبٌ منه برجالٍ ملتحين والآخرُ بسباعٍ فاغرة. وفي عام 1964 بدأت بعثةٌ إيطاليةٌ بإدارةِ (بالو ماتييه) أعمالَ التنقيبِ في هذا التلِّ ولم يتأكّد أنّ الموقعَ هو نفسُه إيبلا القديمة وبقيت هذه المملكةُ مجهولةً إلى عام 1968 عندما عُثِر على جذعِ تمثالٍ نذريٍّ من الحجر البازلتيّ يحمل نقشاً أكّادياُ مؤلفاً من 26 سطراً، وتذكُرُ الكتابةُ أنّ التمثالَ هو هبةٌ من ملك (إيبلا) (إيبيت ليم) من (أجرش حيبا) لمعبد (عشتار) في مدينة (إيبلا)، وبذكرِ اسمِ إيبلا مرتين في النقش تم التأكُّد من أنّ موقعَ تلِّ مرديخ يضمُّ مملكةَ إيبلا القديمة.
أهمُّ الاكتشافاتِ كانت مكتبةَ القصرِ الملكيّ التي احترقت حين غزاها الملكُ الأكادي نارام سين، وبالنار التي كانت دماراً للمدينة شُويَت الرُّقَمُ الطينيّةُ وأصبحت مقاومِةً للعواملِ الجوية، وبفضلِها تعرّفنا على حقبةٍ غامضةٍ من الزمن تمتدّ بين عامَي 2400 و 2250 ق.م. ولم تكن الرُّقَمُ المكتوبةُ بالأحرف المسمارية، ليست سومريةً ولا أكادية ولا تنتمي إلى لغةٍ معروفة، وبعد الدراسة والمقارنة وُجِد أنّها لغةٌ جديدةٌ خاصّةٌ بمملكةِ إيبلا. واتّضحَ أنّها أقدمُ من رُقْمِ ماري بـ 400 سنة ومن رقم أوغاريت بـ 1000 سنة.
والمكتبةُ ذاتُ أرشيفٍ منظمٍ ومنسّقٍ بشكلٍ جيّد وبلغ عدد الرُّقمِ الموجودةِ فيها حوالي سبعةَ عشر ألف وخمسمائة رُقيمٍ وكِسرةٍ طينية مكتوبة باللغة الإيبلائية. كان كلُّ رفٍّ مخصصاً لموضوعٍ وتتفاوت أحجامُ الألواحُ ومساحتُها وشكلُها. وشكلُ اللوح يوحي بمضمونه، فالصلوات والأدعية كانت على ألواحٍ مستديرة صغيرة، والأساطير على ألواح مستطيلة، والوثائقُ التاريخية على ألواح متوسطة ومستديرة أو مربعة بزوايا مستديرة.
اعتقد العلماءُ سابقاً أنّ أهمّ الحضارات التي كانت في الألف الثالثة قبل الميلاد هي حضارةُ مابين النهرين وحضارةُ وادي النيل، ولكنّ اكتشافَ إيبلا بدّل هذه النظريةَ، ذلك لأنها لا تقلُّ أهميةً عن هاتين الحضارتين. وفي عام 1999 ميلادي تمّ ترشيحُ هذا الموقع الهامَّ لوضعِه ضمنَ لائحةِ التراثِ العالميِّ، بعد أن تمّ تقديم ملفٍ كاملٍ يدرس هذا الموقع ويظهر القيمة العالمية الاستثنائية له.