03-27-2022, 03:07 PM
|
|
|
|
تفسير: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم)
تفسير قول الله تعالى
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾
قول الله تعالى ذكره: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ [البقرة: 84 - 86].
"سفك الدم وسفحه": إسالته بكثرة وإراقته وصبه، و"تظاهرون" قرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الظاء، وأصله "تتظاهرون"، فحذفت إحدى التاءين، وقرأ باقي السبعة بتشديد الظاء؛ أي: بإدغام التاء في الظاء، وقرأ أبو حيوة: (تظاهرون) بضم التاء وكسر الهاء، وقرأ بعضهم (تتظاهرون)، ومعناها: التعاون والتناصر، و"الإثم": كلمة جامعة لكل الشرور والعيوب التي يُذَمُّ بها العبد، و"العدوان": هو تجاوز الحد في الظلم، و"أسارى" بضم الهمزة قراءة الجمهور، وقرأ حمزة "أسرى"، و"تفادوهم" قراءة نافع وعاصم والكسائي: من فادى، وقرأ الباقون "تفدوهم" من فدى، وفداء الأسير: إعطاء بدله من المال أو أسير من الآخرين، "وهو محرم عليكم إخراجهم"؛ أي: وإبقاؤهم أسرى بدون فداء في أيدي آسريهم، محرم عليكم في كتابكم؛ كحرمة إخراجهم من ديارهم، وتفعلونه معاونين أعداءكم عليه، وإن يأتوكم أسارى تفادوهم، وكلاهما في الحرمة سواء، و"الخزي" الفضيحة والذلة والصغار، وقد ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة أينما ثُقِفوا إلا بحبل من الله أو بحبل من الناس، وكذلك أخزى الله يهود المدينة بإجلاء بني قينقاع والنضير وقتل بني قريظة: ﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 85].
وبَّخ الله تعالى بني إسرائيل في الآية السابقة على نقضهم ميثاقَ الله الذي واثقهم بإعراضهم وتولِّيهم عن العمل بما أمرهم به، فلم يخلصوا العبادة له كما يجب ويرضى، ولم يحسنوا إلى الوالدين وذوي القربى واليتامى والمساكين، ولم يقولوا للناس حسنًا، وفي هذه الآيات يقرعهم ويشدد النكير عليهم في نقضهم الميثاق الذي أخذه عليهم بالانتهاء عن أمور لا صلاح لهم ولا فلاح إلا بالابتعاد عنها، وتجنُّبها وبُغضها أشدَّ البغض، ولا تصلح أية أمة كذلك إلا ببغضها والحذر منها؛ فهي شر الأمراض التي تفتك بالأمم، فتأتي على بنيانها وتقوِّض دعائم قوتها وسلطانها.
أخذ الله الميثاق على بني إسرائيل بأن يكون بينهم من رابطة الإخاء والمحبة والتعاطف، ما يجعلهم كالجسم الواحد يحس أحد أعضائه من الفرح والألم ما يحث بقية الأعضاء، فدم الفرد منهم هو دم الجميع، وعرضه هو عرض الأمة كلها، وأذيته أذية للجميع، والخير له خير للجميع، فكل واحد يحفظ مال أخيه ودمه وعرضه كحفظه لمال نفسه ودمها وعرضها، لذلك نهاهم عن إراقة دم بعضهم وسفكه بقوله: ﴿ لا تَسفكون دماءَكم ﴾، وعن انتهاك حرمات بعضهم بقوله: ﴿ ولا تُخرجوا أنفسَكم مِن ديارِكم ﴾، وذلك أبلغ ما يكون في النهي؛ إذ جعل سافك دم أخيه ومخرجه من داره، كسافك دم نفسه ومخرجها من دارها.
وقد ذكَّرهم الله تعالى بأنهم قد قبلوا ذلك الميثاق، وتعاقدوا مع ربهم عليه، مقرين به، شاهدين على أنفسهم؛ كما تقول: أقر فلان وأشهد على نفسه؛ زيادةً على التوثيق وتأكيدَ القبول والرضا، وأن ليس ذلك عن إكراه ولا إلجاء، ثم ها أنتم معشر يهود مع قبولكم ورضاكم بهذا الميثاق بدون قهر ولا إكراه، وهو لمصلحتكم وخيركم، وحفظ مقومات أُمتكم، وربط عُراها برباط يصون كرامتها، ويُحقِّق وَحدتها وقوتها - ها أنتم مع كل هذا يقتل اليهودي من بني قريظة أخاه في الدين من بني النضير، ويقتل اليهودي من بني قينقاع اليهودي من بني قريظة والنضير، ذلك أنه كان بنو قينقاع أعداء بني قريظة إخوانهم في الدين، وكان بنو قينقاع حلفاء الأوس المشركين، وبنو قريظة والنضير حلفاء الخزرج المشركين، ثم افترقوا فكان بنو النضير مع الخزرج، وبنو قريظة مع الأوس، وكان الأوس والخزرج قبل الإسلام على أشد ما يكون من العداوة، وكانت الحروب بينهما لا تزال مستعرة اللظى، وكان مع الأوس حلفاؤهم من اليهود، ومع الخزرج حلفاؤهم من اليهود كذلك، فكان القتال تجور رحاه بين الأوس وحلفائهم من بني قريظة، وبين الخزرج وحلفائهم من بني النضير، فيقتل اليهودي اليهودي، ويقع من كل من النضير وقريظة أسرى بيد كل فريق، ويتبع الأسر إخراج الأسير من داره وحرمانه من أهله وولده، وذلك كله مظاهرة بالإثم والعدوان من بني قريظة اليهود للأوس المشركين على إخوانهم اليهود بني النضير، وكذلك هو مظاهرة بالإثم والعدوان من بني النضير للخزرج المشركين على إخوانهم من بني قريظة، فإذا وضعت الحرب أوزارها وانفصلت المعركة بين الأوس والخزرج على أن يعودوا لها بعد أن يستعدوا، ذهب اليهود يبحثون عن الأسرى منهم عند كل من الأوس والخزرج، فيفتقدونهم بما يقدرون عليه من الثمن الذي يطلبه آسروهم مهما بالغوا فيه وغالوا، فيقول لهم الأوس والخزرج متعجبين من عملهم: ما لكم تستحلون دماءكم وتسفكونها وتخربون دياركم، وتخرجون أنفسكم منها، ولا تتحرجون من ذلك، ثم تحرصون هذا الحرص الشديد على فداء أَسْراكم؟! هذا عجب من أمركم، فيقول اليهود: كلا الأمرين محرم علينا في كتبانا أشد التحريم، ولكنا نستحيي من حلفائنا أن نَخذلهم، ونرى من العيب ألا ننصر حلفاءنا، ولو كان ذلك بقتل بعضنا وتخريب بيوتنا.
وهذا من اليهود أحمق الحمق، وأعظم الصغار وأحقر الذلة، وأشد المحادة لله والتلاعب بدينه وكتابه؛ إذ يؤمنون ببعض الكتاب الذي يوافق أهواءهم، ويكفرون بالبعض الآخر الذي لا يكون على أهوائهم، فدينهم أهواؤهم لا ما أمر الله وشرع لهم؛ ﴿ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ﴾ [المؤمنون: 71]، لذلك توعَّدهم الله بأشد العقوبة في الدنيا والآخرة: ﴿ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 85]، فهذا الجزاء مرتب على الفعل لا على الأشخاص، فأي شخص إسرائيلي لا يفعل ذلك ولا يرضى به، ويبرأ منه، فليس عليه هذه العقوبة، وأي شخص كان يفعل ذلك وتاب إلى الله منه، واستغفر وآمَن بالكتاب كله، وعمل به كله، وجعل هواه تبعًا لما شرع الله، نجا من ذلك العقاب، وطبعًا لا يكون كلا الشخصين بريئًا من ذلك الفعل القبيح إلا بالإيمان بمحمد خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم الذي بشر به موسى وأخذ الميثاق على بني إسرائيل أن يؤمنوا به، وقد كان الذي يتولى فعل ذلك من بني إسرائيل هم رؤساؤهم وأحبارهم، والعامة لهم تبع، وقد كان الشيطان يغريهم بالعداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُزين لهم أن يكفروا بما ينهى الكتاب عنه من سفك دماء الإسرائيليين، وتخريبهم ديارهم بأيديهم إرضاءً لحلفائهم من الأوس والخزرج؛ لأنهم أقوى وأعز منهم، وذلة اليهود وجبنهم يهوِّن عليهم ذلك الكفر، ثم يخدعون أنفسهم بفداء الأسرى، موهمين أنفسهم أن ذلك كاف في الإيمان بالكتاب، فما يحملهم على كل ذلك إلا حب الحياة والحرص على الدنيا ورياستها ومتاعها؛ لذلك قال: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ ﴾ [البقرة: 86]، في الدنيا بالخزي والذلة والصغار، وفي الآخرة كذلك، ﴿ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ [البقرة: 86]، ولن يكون من هذا الكفر والجبن والاستخذاء لأعدائهم في الدين، والتضاؤل أمامهم - لدرجة أن يكفروا بدينهم وكتابهم لإرضائهم والتزلُّف إليهم - لن يكون من ذلك نصرٌ لهم، بل لا يزيدهم ذلك إلا ذلة وصغارًا ومهانة وموتًا، وضيعة لحقوقهم، وقتلًا لشخصيتهم. ولن يكون لهم من الله ناصر وهذا حالهم.
فليعتبر المسلمون الذين مزَّقوا وَحدتهم، وفرَّقوا كلمتهم، وعادوا أشلاءً مَنتهَبَةً؛ واستخذوا في إرضاء أعدائهم بإباحة المحرمات، وانتهاك الحرمات، حتى أصبحت بلادهم مباءة لكل موبقة، ومسرحًا لكل منكر، وخدعوا أنفسهم وأوهموها بأنه يكفيهم من الإسلام تلك الرسوم والقشور من مساجد يزخرفونها بالألوان والأصباغ، ثم يُخربونها ويعمرون بيوت الشيطان ليلًا ونهارًا، ومن قبور يعظمونها، وموالد وأعياد يقيمونها، وصيام لا يعرفوه إلا بإضاءة المآذن ولعب الأطفال بالفوانيس، وقليل من الأحكام في الأحوال الشخصية، وما وراء ذلك من الدين، فمُضيَّع، بل محارَب في مرضاة الأعداء، وخوفًا من أن يسخط الأعداء، وخوفًا من أن ينتقد الأعداء؛ ﴿ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 85].
أيها المسلمون، عودوا إلى العمل بالقرآن كله واتباع الدين كله، والاستقامة على الصراط السوي وراء إمامكم الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه المهتدين، وتوبوا إلى الله مما أنتم فيه لعلكم تفلحون؛ ﴿ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [يونس: 101].
هدانا الله جميعًا إلى صراطه المستقيم، وأنقذ المسلمين مما هم فيه من ذلة، وأعاد إليهم مجدهم الغابر وعزهم الداثر، وسلطانهم الذي كانوا به سادة العالم وقادته!
jtsdv: (,Y` Ho`kh ldehr;l gh jst;,k ]lhx;l) Ho`kh ldehr;l jst;,k jtsdv:
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
6 أعضاء قالوا شكراً لـ صاحبة السمو على المشاركة المفيدة:
|
|
تعليمات المشاركة
|
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك
كود HTML معطلة
|
|
|
الساعة الآن 11:41 PM
|