01-30-2022, 10:55 PM
|
|
|
|
|
رواية مارد في صدري _1
أصبحت الحياة في الوطن مثقلة، تتصارع فيه تيارات وأهواء، انتشرت بشكل مثير، كل منها تريد إثبات وجودها، وأكثرها لا تمت إلى أصالتنا بصلة، المسافة بينها شاسعة، والجديد منها يلتصق بالأرض، ويقطع صلته بالسماء، حتى غدونا ميداناً للتجارب.. وتصارعت مع التراث في تناقض واضح، ولفظها العقلاء لبعدها عن حقيقة السماء.
الخوف والوجل سرى في نفوس الكثيرين على أبنائهم، هل يعتزلون، أم يغضبون؟
إعصار جامح اجتاح الأرض، اقتلع الجذور، دفنها في الصحارى، تقلصت الحرية، تشتت الشمل، اغتصبت دور، وعمّ الجور.. وكان نصيب أولادي من الفاجعة كبيراً، توزعوا في الغربة، فكان من هاجر منهم إلى استراليا.
فجرت آلام الفراق والأسى والحزن في حياتي، وقتلت البسمة على شفتني.. أمشي بجسد ينعزل عن كل شيء، إلا من نفسي، وما تحمل من أفكار أتأملها في كل فرد، كنت كغيري أحمل هموم الوطن، ما أكثرها! وأتساءل:
لم الهموم، ونحن من أعظم أمم التاريخ، وأزهى البلدان، وطريقنا سوية في منهج رباني؟
حدثنا التاريخ، لم يظلمنا أبداً.. الآن نحن نظلمه.
في استراليا التقيت بالحاجة فخرية أم (سناء)، كان لها وجود محترم في سدني وسط الجالية العربية المسلمة، تحقق ما تصبو إليه من أماني، أثرت الغربة في صقل شخصيتها، وبلورتها من خلال النشاط والمثابرة في جمعيات نسائية عدة، وبرزت موهبتها الشعرية، فكانت تجري معها مقابلات في إذاعة سدني العربية، سمعتها مراراً وهي تلقي شيئاً من شعرها البديع، ينساب بإيقاعات آسرة، تنبض بمشاعر تسيل برقة في عبارات عذبة، الحنين، والشوق إلى (سناء) والوطن نسيجه في عبق روحي.
كنت أراقبها عن كثب، فالغربة استنزفت أيامها، والشيخوخة غزتها، ولما سألتها عن سناء تنهدت، وبقلب ينفطر بالشوق، استرسلت بلذة في الحديث، وهي تسند بمرفقها على كتف الأريكة الفخمة، ونظراتها ترحل بعيداً تلامس الآفاق:
سارة وهالة ابنتا علاء تخرجتا من الجامعة، وحفيدتها فخرية غدت شابة جميلة في طريقها إلى التخرج.. ضحكت بسرور وهي تذكر حفيدها محموداً:
- أما محمود فهوايته دراسة اللغة العربية، وكتابة الشعر.
- كجدته.
سناء احتفظت بذكرى والديها في اسمينا، كعادتنا نحن العرب في الوطن.
* * *
انهالت الذكريات عليّ بكل ملهماتها، وفي داخلي شيء يتكسر، يربكني أمام الأحداث والمواقف، ويشعرني أحياناً بالعجز، ولكني أتلهف للكشف عن كل شيء بصراحة ودون خوف.
أرست بي الذكرى عند ضفاف طفولتي، وأثارت سلسلة من الأحداث والمواقف، نابضة بالحياة، هادئة حيناً ومشرقة، وفائرة كنبع سخي حيناً آخر، وأراني أجري معها وأنقاد ومن زوايا الماضي وطيات الذكرى، تطل سناء نافضة عنها ركام السنين.
عالم الذكريات حسبته فات ومات، فإذا هو ينمو بحسي، ويؤرقني ويحتضنني بقوة، ويشدني ويدفعني إليه دفعاً.
أخذ شريطها يكر من البداية، حين كان يسترعي انتباهي في غدوي إلى المدرسة أو رواحي، فتاة لا تتجاوز الثانية عشرة، نحيلة القامة، شاحبة الوجه، انسدلت خصلات من شعرها الفاحم بإهمال على جانب وجهها، وعينيها النجلاوين، وارتاحت أخرى فوق ظهرها الذي ينوء بعبء صفيحة الماء التي أرستها فوق قمة رأسها.
كان هذا المشهد يشغل تفكيري، ويشوش خطواتي، وتتسمر له نظراتي على حين كانت الفتيات تضحكن، وتمرحن وتتقاذفن في الطرقات، والنسيم يسرق أحاديثهن المنمنمة، وهمساتهن الرقيقة، ينشرها عبر السكون، ثم يتفرقن في الدروب، تستقبلهن الأمهات بشوق وتلهف. في هذه الأثناء كان يشوب مشاعري حسّ حزين، ورغبة ملحة لأواجه عن بُعد تلك الفتاة.
اعتدت أن أندرج من المدرسة القابعة فوق الهضبة، وأنحدر في الطريق المطل على شاطئ البحر، وعلى بعد منه رست جزيرة "أرواد" وهي تتلألأ كالماس تحت أشعة الشمس المتوهجة.. ثم يلتوي الطريق مع الزقاق في حيّنا الأثري.
عند الظهيرة والنسمات الندية تلاطفني، وتخفف عني رطوبة الجو، كان في داخلي إلحاح يثير الرغبة فيّ لألتقي بها.
فأسأل نفسي بتعجب:
ما الذي يشدّني إليها، ويصعد الغصة فيّ حين أراها؟!
أهكذا شعور من في مثل سنّي؟!
من أين ينبع ذلك الحس الرقيق لدى بعض الناس ويجف لدى بعضهم الآخر؟
ومالي أهتم بما ليس لي به شأن؟!
يكفيني عذاب ومتعة في آن، حين أمرر الحالات في ذهني، فأقارن بينها، لأجد فيها التناقض.
الطبيعة الخلابة تمتد أمام بيتنا المرتفع، والجبال تحتضنه مع الأحياء من الخلف، والأشجار الباسقة تنهض عند السفوح، ويحيط بالبلدة القديمة خندق دائري، يبدأ عند سلم المسجد الأثري، ومئذنته الشاهقة تشرف على البيوت المتراصة، وينتشر صدى الأذان منها في الأجواء.
كنت وإخوتي نصحو عند الفجر على صوت والدي –بعد رجوعه من المسجد- في أرجاء البيت الواسع، يدغدغ أسماعنا بنداء حنون في دعوة إلى الصلاة، لنغمة آسرة توقظنا برقة، فنتسابق إلى الوضوء، والوقوف خلفه صفاً متراصّاً، وبصوته الشجي، يرتل آيات من القرآن تخشع منه قلوبنا، وقد يبقى صغيرنا في سجوده نائماً لا يقوى على النهوض.. فكياسة والدي في تعامله، كانت تغني عن إيقاظنا بقسوة، ثم بعد فترة تتناولنا الأيدي الحنون بالرعاية، من اهتمام بمظهرنا، وحقائبنا التي تدس فيها الشطائر، وقطع الحلوى، ويشتد سرورنا بالنقود الورقية التي تنسلها أمي من الحزمة ورقة، ورقة، محدثة تكتكة تشرق لها نفوسنا، وأثناء هبوطنا السلم الحجري، كانت الوصايا تلاحقنا:
- على مهلكم.. الزموا جانب الطريق.. لا تتكلموا مع أحد.. كلوا اللفائف..
- حاضر يا أمي.. حاضر..
في الطريق، مع القفزات السريعة فوق الحجارة الناتئة برؤوسها، ومع الجذل الطفولي، ونسمات الصباح الندية تصافحنا، أفاجأ بتلك الفتاة فتجرح المفاجأة جريي، وتسكن مرحي، ويقف بصري عند صفيحة الماء الراسية فوق قمة رأسها، تضغط على جانبيها بكفيها الرقيقتين، وينقلني المشهد من عالمي الحالم اللذيذ، إلى آخر مؤلم.
كانت نظراتي تلامس جسد ابنة في الثانية عشرة، ملتحفة بثوب منسدل، التصق لبلله، فأوضح نحوله، والصفيحة تترجرج بين كفيها، فتهرب منها قطرات من الماء، تتقافز بخفة مع مشيتها، وتندس في شعرها وثوبها.. وقد تنزلق نظراتي إلى قدميها الحافيتين وهي تنقلهما بحذر فوق نتوءات الحجارة، وألمح في عينيها تيهاً وشروداً.
مشهد كان يلاحقني كل يوم، مرة أو مرتين، فيعتصرني الألم ويفتت أحلامي، ويمزق نفسي، ويلفني بغلالة من الحزن أعمق من تجربتي، وبدون قصد مني تتحسس أصابع قدمي دفء الحذاء اللماع، وكفي نعومة الضفيرة المنسقة بالشريط الحريري، فتنتابني مشاعر متناقضة تلقيني في موجات من الحوار المحير، في تصورات لا أقدر على حل غموضها.
من هذه يا ترى؟
لم حرمت حقها من التعليم؟
ولم حرمت الحذاء، ودفء الجسد؟
لم... لم... لم..؟
كانت التساؤلات تصفع ذهني، والرغبة تعصف بي تستفزني، وتدفعني لأثور على وصايا والدتي كي أحادثها وتحادثني..
جبنت، لم يحصل شيء من هذا.. استمررت في سيري، وأنا أعضّ على شفتي من الغيظ.
إنّ ثمة سراً خلف ما أرى، سنوات عمري القليلة غير قادرة على كشف الحقيقة.. ويضيق صدري لمثل هذه التساؤلات، ويعود بأشياء رخوة لزجة، تصعدها غصة في حلقي، ثم تتكثف بدمعات أحاول ردها، فتأبى إلا التدحرج.
(لا تنشغلي بشيء في الطريق.. الزمي الرصيف.. كوني مؤدبة..)
أوامر ونواهٍ كلسع السياط، تدفعني دفعاتً وأنا أحتضن هذه الفتاة في خيالي، ثم لا تلبث أن تتلاشى شيئاً فشيئاً في الزحام، وخلف الجدران، والأحداث المتلاحقة.
* * *
كنت أسير صباح يوم خريفي في زقاق جانبي هادئ، والمنازل تقوم على جانبيه مغلقة الأبواب، والشمس ترخي ظلال الأشياء فوق الأرض والجدران.. طرق سمعي صوت خشن لامرأة يرتفع من فوق سور أحد البيوت، يأمر بقوله:
أنت يا بنت يا سناء، هيّا، أسرعي لإحضار الماء من بئر الحارة.
تسمّرتُ في مكاني، وأنا أعجب، كيف اهتديت إلى اسم الفتاة، وبيتها، حملقت في الواجهة، وشعرت برعدة تسري في جسدي، ولم أدر هل كانت الرعدة من المفاجأة، أم من البرد.. ابتسمت لنفسي حين سمعت قرقعة الصفيحة وهي تطرق الجدار بعفوية، قلت:
إذاً سناء، اسمها سناء.
تردّدتُ:
هل أبقى في انتظارها حتى تخرج، أم أعود إلى البيت، وفي جعبتي هذا الحدث الصغير.
بدهشة تساءلت:
ترى من هذه المرأة صاحبة الصوت الأجش؟!
ولم ألبث أن عرفت الإجابة، فقد فُتِحَ باب البيت بعض الشيء، فتشاغلت بشيء كان في يدي قد وقع مني، رأيت في الداخل امرأة ضخمة واقفة وسط الحوش، تلوح بيدها في عصبيّة، وتتحدث إلى رجل جالس، وظهره ناحية الباب، مستند إلى جذع شجرة، كان مرتدياً سروالاً فضفاضاً، وفوقه قميص أزرق، أدركت أنه صاحب البيت، ورأيت أطفالاً مختلفي الأعمار يلعبون في أرض الحوش وازداد صوت المرأة حدة، وهي تنهر البنت سناء بشدة، وتستعجلها للتحرك، وسمعت الرجل يقول للمرأة:
- لماذا تتصرفين كأن الدنيا انقلبت رأساً على عقب يا أم خالد؟!
بصوت حاد أثار اشمئزازي قالت:
- إن الوضع في هذا البيت لا يحتمل..
- اهدئي يا أم خالد، لا تفقدي أعصابك على هذا النحو..
وازداد صوتها حدّة، وهي تجيبه قائلة:
- أنت تتكلم بمنتهى البرودة، لأنك لا تعرف نوع الحياة التي أعيشها في هذا البيت مع هذه البنت اللعينة، إنك تجلس في دكانك ولا تشاهد ما يجري، بينما أحمل أنا عبء البيت كله..
- سأربيها وأقسو عليها، فقط اهدئي.
- دعني وشأني..
- أبسبب سناء كل هذا الغضب؟
- أجل، بسبب هذه البنت الهوجاء.
قلت في نفسي: إذاً هذه البنت هي "سناء" وهذه المرأة هي أم خالد، ليست أمها بلا شك، لما يبدو من قسوتها في الكلام وتذمرها، وأبو خالد زوج هذه المرأة، وأبو سناء.
تحول الأمر إلى شيء مثير للشفقة، ولقد ساعدني الحظ لمعرفة جانب من الحقيقة ببساطة وعفوية، وانطلقت مسرعة نحو البيت، وبعد لحظات كنت بجوار أمي، وبنفسي حوارات، وتساؤلات ملحّة ومحيّرة.
- أمي في الجوار بنت اسمها سناء، أشاهدها باستمرار، وأتألم لحالها، وأرغب بالتحدث معها.. ألقيت هذه الكلمات وأنا في حالة استرخاء..
- مسكينة سناء يا ابنتي..
- يحزنني أمرها..
- لا تشغلي نفسك بشأنها، فما زلت صغيرة.
وجمت هنيهة، ضمتني بحنان إلى صدرها.. أريد المزيد من المعرفة، وددت لو تسمع أمي حوارات نفسي وتجيب عليها، يبدو أنها تعلم الكثير، ولكنها لا تريدني أن أعلم، وتصرفني عن التفكير بلطف.. تصورت سناء واحدة منّا، تشاركنا الحياة، والحب، والرعاية، والتعلم و..
بابتسامة ساخرة، وأنا أعدّ أفراد أسرتنا الذين تجاوزوا العشرين، ويعيلهم والدي بعد وفاة جدي، قلت:
- مستحيل، شيء مستحيل.
سكت، لم أشأ أن أسترسل في الحديث مع أمي، كيلا أثير انتباهها، فتزيد ضغطاً عليّ بوصاياها.. أكتفي بأن ألاحق ظلال الأشياء، ريثما تتضح لي الحقيقة.
* * *
|
|
v,hdm lhv] td w]vd _1 hgu[,. fsjhk
_______________________
________________
والله لو صحب الإنسانُ جبريلا لن يسلم المرء من قالَ ومن قيلا َ
قد قيل فى الله أقوالٌ مصنفة تتلى لو رتل القرآنُ ترتيلا َ
قالوا إن له ولدًا وصاحبة زورًا عليه وبهتانًا وتضليلا َ
هذا قولهمُفي.. الله خالقهم
فكيف لو قيل فينا بعض ما قيلا ..
***
انا زينـــــــــــــه
|
7 أعضاء قالوا شكراً لـ رحيل المشاعر على المشاركة المفيدة:
|
|
تعليمات المشاركة
|
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك
كود HTML معطلة
|
|
|
المواضيع المتشابهه
|
الموضوع |
كاتب الموضوع |
المنتدى |
مشاركات |
آخر مشاركة |
تدبر بستان المعاني
|
عين الثريا |
زوايا عامه |
18 |
05-13-2020 02:42 AM |
من بستان الحكمة
|
صاحبة السمو |
زوايا عامه |
14 |
06-08-2019 03:59 PM |
تخيل حياتك بستان
|
۩۞۩ رآقـيے بطبعيے ۩۞۩ |
زوايا عامه |
10 |
03-23-2017 10:43 PM |
بستان العجوز
|
شموع الحب |
قصص - روآيات - حكايات ▪● |
26 |
03-19-2017 10:17 AM |
من بستان الطب ::
|
مہلہك الہعہيہونے |
آلطِبُ وَ الصحْه ▪● |
25 |
06-18-2014 02:03 AM |
الساعة الآن 01:14 AM
|