فى المشفى وبعد ولادتى أخبرونى بأن طفلى مصاب بمتلازمة داون ، بكيت ، لا أعلم لِمَّ بكيت ولكنى لم أُرد أن آتى بطفل يعانى فى هذا العالم ، اقتربت منى الممرضة بهدوء وهى تحمله ، تلقيته بلهفة وأنا أخبئة كله لى ، كنت أودعه كل قبلاتى ودموعى وفرحتى واضطرابى.
أسميتهُ كامل ، فواللهِ إنه فى نظرى كان كاملًا لا ينقصه شيء.
توالت السنين ولم يشأ الله أن ألد ثانيةً ، كنت أربت على قلبى بالرضا ، أعلمه الصبر والثقة بتدابير الخالق
كنت أكتفى بصغيرى ، أراقبه وهو ينمو ويحبو ويأكل ، ومن خوفى الشديد عليه كنت لا أتركه مع أحد ، خشيةَ أن يُسيء إليه أحد ولو بنظرة.
ولأن صبر زوجى قد نفذ ، ولأنه لا يعترف بصغيرى على أنه شخص كامل ، وهو يريد ذرية تخلف من بعده ، تزوج.
كنت أُلملم شتات قلبى كل مساء بمفردى ، أبكى فأجد يد صغيرة تمسح على خدى وتنظر لى بحزن..
فأحتضنه بعنف لا أقصده ، وأتمتم من بين دموعى.
- أنا أسفة ، أسفة لأنى جئت بك فى عالم كهذا ، ولكنى ورب محمد أُحبك ، أحبك كما لم أحب مخلوقًا من قبل ويشهد الله أنك فى قلبى أجمل الخلق.
ولأن قلبى كان قد فاض طلبتُ الطلاق ، ووافق هكذا وببساطة لأنه يرانى أرض بور لا زرع منها ولا ثمار.
اقتصرتُ حياتى بعدها على تربية صغيرى وإعطائه الحب والحنان الكافى ، ألحقتهُ بمدرسة ليتعلم ، لم أشأ أن أشعره بأنه ليس كغيره من الأطفال ، وبرغم ضعف قدرته الذهنية على الإستيعاب إلا أننى كنت أحاول ، أعيد الشرح مرارًا وتكرارًا حتى يستوعب..
وفى يوم جاء يشكونى وهو يبكى لأن أحدهم سخر منه.
احتضنته برفق وأجلسته على رجلى .
- اممم ، كامل ماذا؟
ردد جملته التى دائمًا ما أتلوها على مسامعه : جميل.
مسكت بيده وأنا أقبلها : ومختلف ، أتدرى لماذا؟
حرك رأسه بعدم فهم
- لأن جميع رفاقه لديهم 46 كروموسوم ، أما هو فيملك 47 كروموسوم ، أترى كم صغيرى مختلف.
ابتسم فابتسمت لإبتسامته وأنا أودعه كل حبى له فى عناق لقلبه قبل جسده.
مرت الأيام وفى يوم التقيتُ بزوجى السابق صدفةً ، رأيته ولم يرانى ، لأنه كان مشغول بأولاده وزوجته!
كنت أرى لمعة الفخر فى عينه لهم ، يملك صبيان رائعان حفظهما الله له ، كان يمسح أثر الأيس الكريم عن ولده البكر كما يبدو ، والصغير كان يحمله على كتفه ويمزح معه بمرح.
ودون درايتي ضغطت على يد صغيرى بشدة ألمته
- أمى ، يدى.
أرخيتها وجلست القرفصاء أمامه أحجب عنه رؤية أبيه وهو يمنح كل حبه ودعمه لأولاده من امرأة أخرى ، ما ذنب صغيرى إن كان جميلًا بشكل آخر ، ما ذنب قلبه إن كان لا يؤذى فيؤذىٰ!
توالت الأيام والسنين ومرّ العمر..
وفى يوم بلغنى أن أبو ولدى مريض بشدة ويعانى ألمًا لا يجعله يبرح من مكانه ، وأن أولاده وزوجته أودعوه في دار مسنين لأنه أصبح عبئًا ثقيلًا عليهم ، وبحكم كل شيء كان بيننا يومًا ، ذهبتُ إليه.
كنت أخطو خطواتى وأنا أرى شريط حياتى و أيامى ، لقائنا الأول ، فترة خطوبتنا ، اعترافه الأول بالحب ، زواجنا ، وأول بُشرى لمولود جديد!
ومن هنا كان كل شيء بعدها ضباب.
عندما سمعت أذن الدخول ، شددت على يد ولدى ودخلت..
كان يعانى للوصول لكوب الماء بجواره ، كدت أخطى لأعطيه إياها ، إلا أن يد سبقتنى
- أبى..
نظرتُ للمشهد أمامى وأنا أبتسم بوجع ، طفلى الذى رفضه أبوه يومًا ها هو الآن من يسقيه ، ويمسح آثر الماء المسكوب من على ذقنه.
نظر لى نظرة أدركتها ، ولكن ما عاد للندم من فائدة الآن، انقضى العمر وانتهى الأمر.
كان قد أهلكه الحزن والوجع أكثر من المرض ، ابتسمتُ له بهدوء لا يعبر عن شيء وأنا أقترب..
جلس كامل بجواره على السرير وأخذ يمسح على شعره ويبتسم له بحنان ، كما أفعل أنا معه حتى ينام
ومن ثم قبَّله على جبينه :*تحتاج شيء يا أبى ؟
رأيتُ الدمع يهطل من عينه ، كما رأها كامل ومحاها
- لا تبكى أبى ، أنا وأمى هنا بجوارك.
طفلى الذي لم يؤمن به والده على أنه شخص كامل أو كما بقية الخلق ، هو الآن من بقىَّ عليه ، وأولاده الذين كان يفتخر بهم وأرادهم سليمَّى الجسد حصل عليهم ولكنهم أول من باعوه ، ولدى الذى رفضه العالم كان يملك أكثر مما يملك صحيحى الأجساد..
كان يملك قلبًا لم يمسه حقد أو كره ، قلبًا نقيًا تمامًا...