12-22-2021, 07:17 PM
|
|
|
|
الصــبر سـراج لآ ينطفــئ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
لا شك أن تزكية النفوس وتهذيبها بالتحلي بخصال الخير ومكارم الأخلاق، والتخلي
عن سيئها مطلب عظيم من مطالب الشرع الحنيف، ولأن الخصال السيئة نار تسري في جسد
الأمة، وأبواب مفتحتة إلى كل شر، وحجر عثرة في سبيل الدعوة إلى الله، لذلك رتب
الله تعالى الفلاح على تزكيتها بخصال يحبها الله ورسوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
زَكَّاهَا.
وكان من دعائ النبي صلى الله عليه وسلم : «اللهم آتِ نفسي تقواها وزكِّها أنت خير من زكاها أنت
وليها ومولاها».
(أخرجه أحمد ومسلم عن زيد بن أرقم).
إن تزكية النفس بخصال الخير موجبة لذوق حلاوة الإيمان برب العالمين، والسير في
طريق المحسنين، وذلك جزاء من تزكى.
وقد أخرج الطبراني والبيهقي في السنن وصححه الألباني في الصحيحة (1046): أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث من فعلهن فقد ذاق طعم الإيمان: مَن عَبدَ الله عز وجل وحده
بأنه لا إله إلا هو وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه في كل عام ولم يعطِ الهِرَمة
ولا الدونة ولا المريضة ولكن من أواسط أموالكم فإن الله عز وجل لم يسألكم خيرها
ولم يأمركم بشرها وزكى نفسه، فقال رجل: وما تزكية النفس ؟ فقال: أن يعلم أن
الله عز وجل معه حيث كان».
قال العلامة ابن القيم في «مدارج السالكين»: «وتزكية النفوس أصعبُ من علاج
الأبدان وأشدُ، فمن زكى نفسه بالمجاهدة والخلوة التي لم يجيء بها الرسل فهو
كالمريض الذي يعالج نفسه، وأين يقع رأيه من معرفة الطبيب؟ فالرسل أطباء القلوب
فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم وعلى أيديهم وبمحض الانقياد
والتسليم لهم، والله المستعان.
إن من الخصال الجامعة لكل خير خصلة يحبها الله ورسوله وجعل الله ثوابها عظيمًا
لا حد له، خصلة ما أحوجنا إليها في هذه الأيام، فهي من سمات المرسلين وصفات
المتقين، وزكى الله المتحلي بها فقال: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ
الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ، إنها خصلة «الصبر».
الصبر وتحديات العصر
ما أحوج الأمة في مثل هذه الأيام التي علا الباطل واستشرى، وتكالب عليها العدو،
فأجلب عليها بخيله ورَجلِه، وظن المسلمون بربهم الظنون في أنه لا نصر ولا عود
للأمة إلى مجدها وكرامتها، ما أحوجنا إلى الصبر والتصبر والمصابرة وهذه وصية
الله للمؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا
وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، فأمر بالصبر وهو
حال الصابر في نفسه، والمصابرة وهي حاله في الصبر مع خصمه، والمرابطة وهي
الثبات واللزوم والإقامة على الصبر والمصابرة، فقد يصبر العبد ولا يصابر، وقد
يصابر ولا يرابط، وقد يفعل ذلك كله بلا تقوى، فأخبر سبحانه أن ملاك ذلك كله
التقوى، وأن الفلاح موقوف عليها، فقال سبحانه: وَاتَّقُوا اللَّـهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم الأمة بأنها تلقى بعده أثرةً وأمورًا
صعابًا، فحثهم على الصبر حتى يلقوه صلى الله عليه وسلم على حوضه يوم القيامة، ففي الصحيحين من
حديث أُسيد بن حضير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنكم ستلقون بعدي أثرةً
فاصبروا حتى تلقوني على الحوض».
فالصبر: حبس النفس على ما تكره.
وأما حقيقته: فهو الخلق الفاضل الذي يمنع صاحبه من أن يأتي بقبيح من الأقوال
والأفعال.
أقسام الصبر وأنواعه
أولاً: الصبر على طاعة الله: كإسباغ الوضوء على المكاره.
ثانيًا: الصبر عن معصية الله: مثل الصبر عن النظر إلى المحرمات.
ثالثًا: الصبر على أقدار الله: مثل الصبر على ما يصيب الإنسان من الابتلاءات في
الأنفس والأموال والثمرات.
والصبر على ثلاثة أنواع:
1- الصبر بالله: وهو الاستعانة به ورؤيته أنه هو المصبِّر وَاصْبِرْ وَمَا
صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّـهِ. روى البخاري عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«إن الله تعالى قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة». يريد
عينيه.
2- الصبر لله: وهو أن يكون الباعث له على الصبر محبة الله وإرادة وجهه والتقرب
إليه، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى
(40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى.
3- الصبر مع الله: وهو دوران العبد مع مراد الله الشرعي منه، فقد أخرج الإمام
أحمد بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله والمهاجر
من هجر الخطايا والذنوب».
وللصبر مع الهوى والشهوات ثلاثة أحوال:
1- أن يقهر الصبر الهوى وَيُذِلَّهُ فيصير الصبر دأبًا للإنسان وعادة له، وهذه
المرتبة لا يصلها إلا الصديقون الذين استقاموا.
2- أن يتغلب الهوى على الصبر حتى لا يوجد للصبر مكان في القلب، عياذًا بالله،
وهذا هو أسير الخطايا.
3- أن تكون الحرب سجالاً بين الصبر والهوى. فتارة يتغلب الصبر، وأخرى يتغلب
الهوى.
فضل الصبر وثوابه:
الصبر سراج لا ينطفئ وجواد لا يكبو، وله فوائد عظيمة؛ نذكرها بإيجاز، منها:
1- الصبر خير ما يعطاه العبد:
عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسع من
الصبر».
(رواه مسلم).
فالصبر مثل اسمه مرٌّ مذاقه، ولكن عواقبه أحلى من العسل.
ونقل ابن القيم في «عدة الصابرين» عن سليمان بن القاسم قال: «كل عملٍ يعرف
ثوابه إلا الصبر فإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب. قال: كالماء المنهمر.
2- الصبر من سمات الصادقين المتقين، قال تعالى: وَالصَّابِرِينَ فِي
الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.
3- الصابرون يظفرون بمعية الله تعالى في الدنيا والآخرة، قال تعالى: وَاللَّهُ
مَعَ الصَّابِرِينَ (البقرة: 249).
بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين
جعل الله الإمامة في الدين منوطة بالصبر واليقين، قال تعالى: وَجَعَلْنَا
مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا
بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ، قال ابن عيينة: «لما أخذوا برأس الأمر صاروا رؤوسًا».
4- بشر الله الصابرين بثلاثٍ كل منها خير مما عليه أهل الدنيا يتحاسدون، فقال
تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ
مُصِيبَةٌ إلى أن قال: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ
وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (البقرة).
5- الصبر على القضاء خيرٌ لأهل البلاء فهو بضاعة الصديقين، فقد أخرج الترمذي عن
جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليودَّنَّ أهل العافية يوم القيامة أن جلودهم قرضت
بالمقاريض مما يرون من ثواب أهل البلاء».
6- الصبر على البلاء، والرضا بالقضاء جزاؤه الجنة ونعم الثواب، فقد أخرج أبو
داود في سننه عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ السعيد لمن جنب الفتن، ولمن
ابتلي فصبر فواهًا له ثم واهًا له». (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
7- الصابرون أهل لمحبة رب العالمين، قال تعالى: وَاللَّـهُ يُحِبُّ
الصَّابِرِينَ.
يا دعاة الحق... صبرًا
يقول الله تعالى: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، يا ورثة الأنبياء، يا حملة لواء هذا الدين، إن
النصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسرًا، فإن الطريق إلى الله ليس
مفروشًا بالورود، بل هو مليء بالصعاب والعقبات، فقد تعب فيه آدم، وابتلي فيه
نوح، وألقي الخليل في النار، ونُشر زكريا بالمنشار، وقطع رأس يحيى، وعاين الأسى
فيه نبينا محمد، عليهم جميعًا صلوات الله وسلامه.
والداعية إلى الله لا ييأس ولا يحزن، بل يشمر عن ساعد الجد، ويسعى بقدم الإخلاص
إلى هداية الناس، ويحمل همّ هدايتهم، فهذا هو الداعية الصادق الذي لا يتعامل مع
دعوته كأنها عبء يلقيه عن عاتقه، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الدم عن وجهه ويقول:
«اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»، ويرجع من الطائف ماشيًا وخلفه السفهاء
يؤذونه وما استعجل بالدعاء على قومه، وإنما قال قولة كتبت على جبين التاريخ
بأحرف من نور: «بل أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به
شيئًا». ولكن يا ليت قومي يعلمون.
الدعاة والعلماء ورثة الأنبياء ؟!
الداعية إلى الله وريث الأنبياء، قد يتعرض في سبيل دعوته إلى الأذى والعنت حتى
يُهجر ويضيق عليه، ففي هذه الحال لا تزيد الغربةُ الداعيةَ إلا الله إلى
صمودًا، ولا يستوحش فهو مستأنس بالله ويعلم أنه منصور، فالله تعالى يقول:
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا
وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا، فعلى داعية إلى الله عز وجل أن يتحلى
بالصبر وليعلم يقينًا أن النصر مع الصبر، وأن مع العسر يسرًا، هذه الباقة من
قطوف سيرة سلفنا الصالح له فيها أسوة، قال أبو أيوب سليمان بن وهب - رحمه
الله-: كنت يومًا في سجن محمد بن عبد الملك الزيات في خلافة الواثق العباسي
آيسًا مهمومًا حتى وردت إليَّ رسالة من أخي الحسن بن وهب يقول فيها:
أبا أيوب أنت محلها
فإذا جزعت من الخطوب فمن لها
فاصبر فإن الله يُعقبُ فرَجَهَ
ولعلها أن تنجلي ولعلها
وعسى تكون قريبة من حيث لا
ترجو وتمحو من جديدك ذلها
قال: فتفاءلت لذلك وقويت نفسي فكتبت إليه:
صبرتني ووعظتني وأنا لها
وستنجلي، بل لا أقول لعلها
ويحلها من كان صاحب عقدها
ثقةً به أن كان يملك حلها
فنصر الله آتٍ بما لا يخطر على بال بشر، والعاقبةُ عند الله للمتقين الصابرين،
فاللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
hgwJJfv sJvh[ gN dk'tJJz dk'tJJz
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
3 أعضاء قالوا شكراً لـ شموع الحب على المشاركة المفيدة:
|
|
تعليمات المشاركة
|
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك
كود HTML معطلة
|
|
|
الساعة الآن 05:41 PM
|