الحمدلله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
ما كان لأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أن يقول مقالته البليغة: "لو طهرت قلوبنا ما شبعت من كلام الله". إلا وقد حقق ذلك عملاً وسلوكاً،
فما مات عثمان حتى خرق مصحفه من كثرة ما يديم النظر فيه،
ورثى حسان بن ثابت عثمان فقال: ضحوا بأشمط عنوان السجود له *** يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً
ونعته زوجه فقالت: "فوالله لقد كان يحيي الليل بالقرآن في ركعة".
إن الإقبال على القرآن والانتفاع به تلاوة وتدبراً وعملاً متحقق لأصحاب القلوب الحية حيث قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37]
قال ابن القيم رحمه الله: "قوله: {لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} فهذا هو المحلل القابل والمراد بهالقلب الحي الذي يعقل عن الله، كما قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس: 69-70] أي حي القلب.
فصاحب القلب الحي بين قلبه وبين معاني القرآن أتم الاتصال، فيجدها كأنها قد كتبتفيه، فهو يقرؤها عن ظهر قلب.
وقال تعالى : " فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ " [الزمر/22] .
أي : لا تلين لكتابه، ولا تتذكر آياته، ولا تطمئن بذكره بل هي معرضة عن ربها ملتفتة إلى غيره فهؤلاء لهم الويل الشديد والشر الكبير " أولئك في ضلال مبين " وأي ضلال أعظم من ضلال من أعرض عن وليه، ومن كل السعادة في الإقبال عليه وقسا قلبه عن ذكره وأقبل على كل ما يضره ؟ .
ونبه ابن القيم في موضع آخر إلى أن سلامة القلب من شرور النفس ومكايد الشيطان يحقق الانتفاع والتأثر بالقرآن فقال في مشروعية الاستعاذة عند تلاوة القرآن: "وقال لي شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يوماً: "إذا هاش عليك *** فلا تشتغل بمحاربته ومدافعته، وعليك بالراعي فاستغث به فهو يصرف عنك ال*** فإذا استعاذ بالله من الشيطان بعد منه، فأفضى القلب إلى معاني القرآن، ووقعفي رياضه المونقة، وشاهد عجائبه التي تبهر العقول، واستخرج من كنوزه وذخائره ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت وكان الحائل بينه وبين ذلك النفس والشيطان، والنفس منفعة للشيطان سامعة منه فإذابعد عنها وطرد لمَّ بها الملك وثبتها وذكرها بما فيه سعادتها ونجاتها".
وقد قال تعالى: {لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}[الواقعة: 79]
فإذا كان ورقه لا يمسه إلا المطهرون فمعانيه لا يهتدي بها إلا القلوب الطاهرة.
ولما كان سلفنا الصالح أصحاب قلوب حية وأفئدة طاهرة نقية من المعاصي والمحدثات انتفعوا بالقرآن فظهرت آثار تلاوته من وجل القلب واقشعرار الجلد ودمع العين.
وقال عز وجل: {إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58]
كما تحقق لهم العلم النافع والفقه في دين الله تعالى، والرسوخ في علوم الشريعة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والمقصود أن القرآن من تدبره تدبراً تاماًتبين له اشتماله على بيان الأحكام، وأن فيه من العلم ما لا يدركه أكثر الناس، وأنه يبين المشكلات ويفصل النزاع بكمال دلالته وبيانه إذا أعطي حقه، ولم تحرف كَلِمُه عن مواضعه".
ويقول أيضاً: "ومن أصغى إلى كلام الله وكلام رسوله بعقله، وتدبره بقلبه، وجد فيه من الفهم والحلاوة، والبركة والمنفعة ما لا يجده في شيء من الكلام لا منظومة ولا منثورة".
ويقول في موضع ثالث: "فالقرآن قد دل على جميع المعاني التي تنازع الناس فيها دقيقها وجليلها".
كما حوى القرآن الكريم الرد على كل متبدع كما قال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَبِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33].
قال مسروع رحمه الله: "ما أحد من أصحاب الأهواء إلا في القرآن ما يرد عليهم ولكننا لا نهتدي له".
إن انهماك طوائف من جيل الصحوة في سماع القصائد والأناشيد والتوسع في ذلكقد يوقعهم في تفريط وتقصير تجاه كتابالله تعالى، ولما ساق ابن تيمية مقالة الإمام الشافعي رحمه الله: "خلفت ببغداد شيئاً أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير، يصدون الناس عن القرآن".
فقال: وهذا من كمال معرفة الشافعي وعلمه بالدين، فإن القلب إذا تعود سماع القصائد والأبيات والتذّ بها، حصل له نفور عن سماع القرآن والآيات..".
فعلى الدعاة والمربين أن يبذلوا جهدهم ويعمروا برامج طلابهم وشبابهم بما ينفع.
ونختم هذه المقالة بعبارات مؤثرة دونها ابن القيم رحمه الله حيث قال: "فما أشدها من حسرة وأعظمها من غبنة على من أفنى أوقاته في طلب العلم ثم يخرج من الدنيا وما فهم حقائق القرآن ولا باشر قلبه أسراره ومعانيه".