08-29-2024, 11:52 PM
|
|
|
|
|
إنذار نهائي
شمس دافئة ملأت حجرات البيت المتهالك، تبعتها نسمات هادئة من البحر المجاور، الهواء يلعب ببقايا طربال العريش ويحدث خرخشة بين الحلقات الحديدية الصدئة، لايزال الصباح في بدايته، إلا أن المفارش لم تصب بالبلل، فلم تغزُ الرطوبة كالعادة الأسرّة والبسط والمخدات والتكيات القطنية إنما على عكس ذلك، تسللت ليلة البارحة رياح تشرينية باردة إيذانًا بالاستعداد للهبوط تجاه الحجرات العتيقة الكسل يستوطن أجساد الصبية النحيلة، فلا يلتفتوا إلى زحف الشمس نحو أسرّتهم، فاليوم جمعة وهو يوم إجازة المدارس، بينما هبّت الفتيات من نومهن وتصايحن بألعابهن في فناء البيت ودهاليزه المغبرة.
الجدة ورغم أن الشيب غطّى كامل شعرها، إلا أن عينيها العسليتين ظلتا تشعان بروح التفاؤل والمرح، وبشرتها البيضاء الناصعة، توحي بالهدوء والقناعة، وقسمات وجهها الشاحبة تضيء بانطباعات مختلفة ومتناقضة، عاكسة في جانب منها جهد وتعب السنين، ومن جهة أخرى حكمة التأمل، وصبغة المشاعر والأحاسيس الهادئة، التي سرعان ما تتحول إلى زوابع وأعاصير، يحدث ذلك عندما يفيض نهرها بصراع لا مخرج منه.
قال لها عجوزها وهو يتفرس وجهها: لقد شقيت بما فيه الكفاية، ألم يحن الوقت لالتقاط الراحة؟ أجابته في الحال: لم ولن أركن للراحة، فذلك يعني أنني شارفت على الانتهاء!. قالت جملتها دون أن تعطيه المزيد من وقتها.
صمت الزوج، وعاد يتأمل حركتها الدؤوبة، وخفة حركتها ونشاطها الذي لم يتوقف ولو للحظة واحدة. وعادت إليه منتقدة تلك الجلسة، إزاره المهلهل والفانلة غير المرتبة، كما لفتت نظره إلى رتابة الحياة التي يحياها، وعدم القيام بأي فعل سوى الشفط من قلم النارجيلة ونفث دخانها إلى أعالي السماء. أجابها بهدوئه المعتاد: إن السنين التي شارفت على الثمانين تأخذ من شهيتي للعمل، وأي عمل يمكنني القيام به بعد هذا العمر المثقل بالعطاء دون التفات من أحد! وددت لو أسمع كلمة شكر في نهاية الخدمة! ثم دعاها في شأن مهم!
- ما رأيك أن تتناولي (قدوك)، وتشعلي بعض الجمر، ونشرب (إستكانة) من الشاي، فهناك موضوع بودي الحديث عنه.
- سنتحدث، قالت له، ولكن قبل كل شيء لابد من عمل فطور لأفواه اليتامى، ليذهبوا إلى أصدقائهم وفي بطنهم شيء يسد جوعهم، رحمة الله على أمهم التي بفقدها، فقدت معه طعم الحياة.
- وعندما أنهت ما بيدها، أصبحت بجانبه، وكل واحد منهما صار ينفث من دخانه، حتى أصبح دهليز البيت أشبه بغيمة على شكلٍ دوامة،
- لن أتحدث عن العمر، ولا السنوات التي أمضيتها في الشقاء، لكنني سأخبرك عن أمر أهم!
- اتسعت عيناها، وخفق قلبها، وأصبح نفسها يضيق، إلا أنها واصلت الشفط من دخانها، وغابت لمحات الاطمئنان من على وجهها، فتغضن جبينها، ومالت جفونها للانكسار كأنها شجرة انحنت أغصانها من شدة عاصفة هوجاء مرت بها، حتى إن الشدق قد توسّد جفونها، واصفرَّ لونها، وكادت أن يغمي عليها.
- وعندما أدرك العجوز حال زوجته قام من مكانه مقدمًا قدحًا من الماء المعطر بالورد، ارتشفت منه جرعات والبقية رشح به وجهها المتيبس، قال لها لا داعي لكل هذا الوجل، عندما تأكد من عودة رفيقة دربه إلى حالتها الطبيعية، قال لها: الموضوع هو ما يخص هذا البيت الذي نحن فيه! وماذا جرى لهذا البيت؟ لقد انتهينا من موضوع دكان السكة، ومضى على ذلك ثلاث سنوات، والآن تحدثني عن بيتنا، وربما عن جرح نازف جديد!
- هذا البيت كان لنا من سنوات طويلة، ثم أصبح ملكًا لابنينا الاثنين (جواد وأحمد)، لقد اشتراهما مني أيام الفقر المدقع، وسددت ببعضه الديون التي أنهكتني، والآن وبعد أن اشترى جواد حصة أخيه أحمد أصبح هذا البيت ملكًا له.
- يا لك من عجوز أحمق! وما المطلوب منا الآن؟ هل سيطردنا ابننا جواد من هذا البيت الذي التصقت حياتي به؟
- لا لن يفعل، بل طلب منا الذهاب إلى أحد بيوته الجديدة والعيش هناك لفترة حتى يتمكن من صيانة وإصلاح هذا المنزل، ثم العودة إليه!
- وماذا سيحدث لو لم أخرج من هنا؟
- تكونين قد سببت إزعاجًا لابنك الذي تخافين عليه!
- قل لي بصدق، هل وصلنا إلى نهايتنا؟ -وقتها- من سيرعى هؤلاء اليتامى الأحفاد؟
- تذكرت ابنتها الوحيدة التي فارقت الحياة بسبب نقص الدواء، وقلة المال، وتذكرت محاولات زوجها الاقتراض من أحد تجار المال وبفوائد كبيرة، واستدركت سبب بيع البيت، وكان وقتها ابنها جواد قد رفض إعطاء والده مبلغًا من المال لعلاج أخته، لم يتّسع صدرها لكل تلك الصور الكئيبة وما كان منها إلا الإجهاش بالبكاء والنحيب.
- حاول إقناعها بالذهاب للبيت الجديد، الذي يحوي غرفتي نوم، وصالة للجلوس، مع وجود حمامين، وصف لها البيت الذي زاره قبل بضعة أيام، ورأى كيف يبدو جميلًا، ومريحًا، وخصوصًا أنه لا يبعد إلا مسافة سبع دقائق مشيًا على الأقدام تقريبًا.
- قالت له متسائلة: هل ستصبر على وقاحة زوجة ابنك جواد؟
- ليس لنا من الأمر حيلة، لا هذا البيت بيتنا، ولا البيت الذي سنذهب إليه كذلك، ولا ابننا أحمد بحال يسمح له تهيئة منزل لنا، لم يبقَ لنا في هذه الدنيا إلا حطامها.
- علمتني يا زوجي ألا أستسلم، وهذا البيت سنقضي فيه ما بقي لنا من حياة، لا يهمني إن غضب ابننا، إلا إذا طردنا بالقوة.
- كاد شرار عينيها يتطاير غضبًا وحنقنًا على ما وصل به الحال، فقامت من شدة الانفعال تذرع البيت ذهابًا وإيابًا، متحدثة إلى زوجها تارة وإلى نفسها تارة أخرى، وإلى غرفتها التي تهيئ لها بأنها تصيخ السمع إليها.
- هنا أنجبت أولادي جميعًا، وعلى هذا المنام انزلقت ابنتي المرحومة من رحمي، وفي الجهة المقابلة من الغرفة أنجبت (جواد وبعده أحمد)، وفي هذا الفناء أيها العجوز اعتصرنا الألم من شدة ما انتابنا من جوع وألم، ومن فوقنا كانت السماء تحكي لنا في ليالي الصيف حكايات عذبة، وتطلب منا بعد أن يداعب هواها أجسامنا الخلود إلى النوم، فطالما كانت تبشرنا بمجيء يوم جديد، وتشد من عضدنا في بث قصص عندما تباغتنا الآلام.
- كان هذا البيت يمنحني أمانًا عندما يتنكر الزمان بي، فأصبحت رائحته ملتصقة بأنفي.
- هل سمعت حديثي أيها العجوز الشقي؟
- تكوّم الزوج على بعضه وبانت عظام كتفيه اللذين قفزا إلى الأعلى وأطلّ برأسه مثل طير عاد للتو من معركة مكسور الجناح، وبقي صامتًا ينتظر نهاية المسرحية التي تديرها الزوجة.
- قالت له، وقد وصلت إلى منتهى غضبها، لتعود بذاكرتها عندما كانت في وحامها بابنها جابر، مشيرة إلى مكان الحدث، فتقول: هل تتذكر هذا المكان الذي يرغب ابنك أن نغادره، حينما كنت في وحامي به، وقتها رغبت في قطع أذنك حتى ألتهمها، عندها تقوقع العجوز إلى أبعد ما يمكن أن يكون عليه، مطلقًا صرخة مدوية: عرفت يا زوجتي العزيزة، لن أغادر هذا المنزل إلا إلى منزلي النهائي تحت الثرى -
- |
-
Yk`hv kihzd
_______________________
________________
والله لو صحب الإنسانُ جبريلا لن يسلم المرء من قالَ ومن قيلا َ
قد قيل فى الله أقوالٌ مصنفة تتلى لو رتل القرآنُ ترتيلا َ
قالوا إن له ولدًا وصاحبة زورًا عليه وبهتانًا وتضليلا َ
هذا قولهمُفي.. الله خالقهم
فكيف لو قيل فينا بعض ما قيلا ..
***
انا زينـــــــــــــه
|
الأعضاء الذين قالوا شكراً لـ رحيل المشاعر على المشاركة المفيدة:
|
|
تعليمات المشاركة
|
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك
كود HTML معطلة
|
|
|
الساعة الآن 04:04 AM
|