هديُ السَّلَفِ في مَحبَّةِ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ
هديُ السَّلَفِ في مَحبَّةِ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ
أما بعد:
فيا أيها الناسُ اتقوا الله تعالى وحَقِّقُوا محبَّة نبيِّكم صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ باتِّباعِه، قال سفيان الثوري: (الْمَحَبَّةُ اتِّبَاعُ الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ) انتهى، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾ [آل عمران: 31].
إنَّ مَحبَّةَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم من أعظمِ الفرائض، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: 24].
قال القاضي عياض: (فكَفَى بهذا حَضًّا وتَنْبيهاً ودَلالَةً وحُجَّةً على التزام مَحبَّتهِ، ووُجُوبِ فَرْضِها، وعِظَمِ خَطَرِها، واسْتِحْقَاقِهِ لها صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، إذ قرَّعَ اللهُ تعالى مَنْ كانَ مَالُهُ وأهلُهُ وولَدُهُ أحَبَّ إليهِ مِنَ اللهِ ورسُولِهِ، وأَوْعَدَهُمْ بقولِهِ تعالى: ﴿ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾ ) انتهى.
وقال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (فوالَّذِي نَفْسي بيَدِهِ، لا يُؤْمِنُ أحَدُكُم حتى أكُونَ أحَبَّ إليهِ مِن والدِهِ ووَلَدِهِ) رواه البخاري.
وقد حقَّقَ السلَّفُ أسمى الأمثلةِ في محبَّةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فقد كان أبو بكرٍ وعُمَرَ رضيَ اللهُ عنهما يُحبَّانِ أن يُسْلِمَ أبو طالب والعباس على إسلام آبائهما لأن ذلكَ أحبُّ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
أيها المسلمون:
إنَّ محبَّةَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم من الأُمورِ القلبيةِ الوجدانية، وهذه المحبَّةُ تُوجبُ لوازمها ومقتضياتها من الأعمالِ والأقوالِ، ولذلكَ كانَ هديُ السلَفِ في محبَّتهم لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تتجلَّى في الإيمان بنبُوَّتهِ وعُمومِ رِسالته، وأنه خاتم الأنبياء، وأنه بلَّغَ الرسالة، والإيمان بعصمته، ولزوم سنته والانتصار لها، والمحافظة عليها، والتحذير من معصيته، والذبِّ عنه صلى الله عليه وسلم، والإكثار من ذكره، وتَمنِّي رُؤيَتِه، والنصيحةِ له، وتَعَلُّم القرآنِ وتعليمهِ، ومحبَّة آله وأصحابهِ، وتقديمه صلى الله عليه وسلم على النفسِ والوالدِ والولدِ والناسِ أجمعينَ، قال ابنُ القيِّمِ: (كانَ الصحابةُ رضيَ اللهُ عنهم يَقُونَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الحربِ بنفوسهِم حتى يُصْرَعُوا حولَهُ) انتهى، قال ابن كثير في ذكرِ قصَّة أَسْرِ زيدِ بن الدُّثُنِة رضي الله عنه وإرادة قريشٌ قَتلَهُ: (فقالَ لهُ أبو سُفيانَ حينَ قُدِّمَ لِيُقْتَلَ: أَنشُدُكَ اللهَ يا زيدُ، أتُحِبُّ أنَّ مُحمداً عِندَنا الآنَ مَكانَكَ نَضْرِبُ عُنُقَهُ وأنكَ في أهْلِكَ؟ قالَ: واللهِ ما أُحِبُّ أنَّ مُحمداً صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ الآنَ في مَكانهِ الذي هُوَ فيهِ تُصِيبُهُ شَوْكَةٌ تُؤْذِيهِ وإني جَالسٌ في أهلي! قالَ: يَقُولُ أبو سُفيانَ: ما رأَيْتُ مِنَ الناسِ أحَداً يُحِبُّ أحَداً كَحُبِّ أصحابِ مُحمَّدٍ مُحَمَّداً) انتهى.
ومن هديِ السَّلَفِ في محبَّتهم لرسولِ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: تعظيمُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وتوقيرُهُ وإجلالُه: قال القاضي عياض: (كانَ مالكٌ إذا ذُكرَ النبيّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يَتَغيَّرُ لَوْنُهُ ويَنْحَني حتى يَصْعُبَ ذلكَ على جُلَسَائِهِ، فقيلَ لَهُ يَوْماً في ذلكَ؟ فقالَ لوْ رأيْتُم ما رأَيْتُ لَما أنكَرْتُمْ عليَّ ما تَرَوْنَ.. ولقدْ كُنتُ أرَى جعفر بن محمدٍ وكانَ كَثيرَ الدُّعابَةِ والتَّبَسُّمِ فإذا ذُكِرَ عندَهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ اصْفَرَّ، وما رأيتُه يُحدَّثُ عن رسولِ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إلاَّ على طَهَارَةٍ.. ولقدْ كانَ عبدُ الرحمنِ بن القاسمِ يَذكُرُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فيُنْظَرُ إلى لَوْنِهِ كأنَّهُ نُزِفَ مِنْهُ الدَّمُ، وقدْ جَفَّ لسانُهُ في فَمِهِ هَيْبَةً منهُ لرسولِ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.. وكانَ ابنُ سِيرِينَ رُبَّما يَضْحَكُ فإذا ذُكِرَ عندَهُ حديثُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ خَشَعَ، وكانَ عبدُ الرحمنِ بن مَهْدِيّ إذا قَرَأ حديثَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُمْ بالسُّكُوتِ وقالَ: ﴿ لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ﴾ [الحجرات: 2] انتهى.
إنَّ أعظمَ دواعي محبَّةِ السلَفِ لرسولِ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أمران: أحدهما: نَظَرُهُم إلى شمائلهِ وأخلاقهِ، والثاني: نَظَرُهُم إلى إحسانهِ وإنعامهِ على أُمَّتهِ.
وقد تَمَثَّلَ صدقُ محبَّتهم لنبيِّنا صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في طاعتهم له فيما أَمَر، وتصديقهِ فيما أخبَر، واجتناب ما نَهَى وزَجَرَ، ولم يَعْبُدُوا اللهَ إلاَّ بما شَرَعَ، وحَقَّقُوا مَحبَّتَهُ اعتقاداً وقولاً وعَمَلاً، وقدَّمُوها على محبَّةِ النفسِ والوَلَدِ والناسِ أجمعين، وقامُوا بتوقيرِهِ وتعظيمِهِ وتَعْدَادِ خَصَائِصهِ ومُعْجزاتهِ ودلائلِ نُبُوَّتهِ وكثرةِ ذكرِهِ، وتعريفِ الناسِ بسُنَّتهِ وتعليمهِم إياها، وتذكيرهِم بمكانتهِ ومَنْزِلتهِ وحُقوقهِ، وذكرِ صفاتهِ وأخلاقهِ وخِلالِه، وما كان من أُمورِ دَعْوتهِ وسيرتهِ وغَزَواتهِ، وقاموا بتوقير آله وأزواجه أمهات المؤمنين، وتوقير أصحابه، وحفظ حُرْمة مدينته صلى الله عليه وسلم.
عباد الله:
مع هذه المحبَّة العظيمة للسلف الصالح من القرون الثلاثة المفضَّلة، فهل احتفلوا بيوم واحدٍ من أيَّامهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ؟ كمولده أو وفاته أو غزوةٍ من غزواته صلى الله عليه وسلم؟.
الجواب: لا، لأنهم لهديه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مُتَّبعون، وبسنته مُتقيِّدون، لا يَزيدون عمَّا تركَهُم عليهِ ولا يَنقُصون، قال العرباض رضي الله عنه: (وعَظَنَا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مَوْعِظَةً ذرَفَتْ مِنها العُيُونُ، ووَجِلَتْ منها القُلُوبُ، فقُلنا يا رسولَ اللهِ: إنَّ هذِهِ لَمَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فمَاذا تَعْهَدُ إلينا؟ قالَ: قدْ تَرَكتُكُمْ على البَيْضَاءِ ليْلُهَا كنَهَارِها لا يَزِيغُ عنها بعْدِي إلاَّ هالِكٌ، مَنْ يَعِشْ مِنكُمْ فسَيَرَى اختلافاً كثيراً، فعَلَيْكُم بما عَرَفْتُم من سُنَّتي وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الراشدينَ المهدِيِّينَ، عَضُّوا عليها بالنواجِذِ) رواه ابنُ ماجه وجوَّدَهُ أبو نُعيمٍ، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَن أحدَثَ في أَمْرِنا هَذا ما لَيْسَ منهُ فهُوَ رَدٌّ) متفقٌ عليه.
عباد الله:
إنَّ تعظيمَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وَسَطٌ بينَ الإفراطِ والتفريطِ والغُلوِّ والْجَفاء، قال ابنُ عبد الهادي رحمه الله: (إنَّ تعظيمَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مَحَلُّهُ القلبُ واللسانُ والجوارح.
فالتعظيمُ بالقلبِ: ما يتبع اعتقادَ كونهِ رسولاً من تقديمِ مَحبَّتهِ صلى الله عليه وسلم على النفسِ والولدِ والوالدِ والناسِ أجمعين، ويُصدِّقُ هذه المحبَّة أمران:
إحداهما: تجريدُ التوحيد، فإنه صلى الله عليه وسلم كان أحرصَ الخلقِ على تجريده حتى قَطَعَ أسبابَ الشركِ ووسائله من جميع الجهات... ومدار دينه على هذا الأصل الذي هو قطب رحى النجاة، ولم يُقرِّره أحدٌ ما قرَّره صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله وهديه وسدِّ الذرائع المنافية، فتعظيمُه صلى الله عليه وسلم بموافقته على ذلك لا بمناقضته فيه.
الثاني: تجريدُ متابعته وتحكيمه وحده صلى الله عليه وسلم في الدقيق والجليل من أُصول الدِّين وفروعه، والرضا بحكمه والانقياد له والتسليم، والإعراض عمَّن خالفه وعدم الالتفات إليه، حتى يكون صلى الله عليه وسلم وحدَهُ الحاكم الْمتَّبع المقبول قوله، كما كان ربُّه تعالى وحده المعبود المألوه الذي إليه الرغبة والرهبة.
وأمَّا التعظيمُ باللسان: فهو الثناءُ عليه صلى الله عليه وسلم بما هو أهله مما أثنى به على نفسه، وأثنى به عليه ربُّه تبارك وتعالى من غير غلوٍّ ولا تقصيرٍ، فكما أن المقصِّر المفرِّط تارك لتعظيمه فالغالي المفرِّط كذلك.
وأمَّا التعظيمُ بالجوارح: فهو العمَلُ بطاعته صلى الله عليه وسلم، والسعي في إظهار دينه وإعلاء كلماته، ونصر ما جاء به، وجهاد ما خالفه) انتهى ملخَّصاً.
اللهم ارزقنا تحقيق محبَّة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم في الظاهر والباطن، آمين.
i]dE hgs~QgQtA td lQpf~QmA hgkfd~A wg~Qn hgg~QiE ugdiA ,sg~QlQ i]nQ
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|